من ملامح النضج أن ما كنا نفعله بالأمس لم نعد نفعله اليوم، مساحات المسموح به فى سن معينة تضيق أو تتحدد أو تتغير بتقدم العمر، والسير نحو مفهوم النضج. مسموح للإنسان فى سن مبكرة بالتجاوز أحيانا، والطيش أحيانا، والتطرف أحايين أخرى، ويمكن للمحيطين القبول بهذه التجاوزات منه، على أنه لم يصل بعد إلى سن النضج، وما ينطبق على الأفراد ينطبق بشكل أو بآخر على النظم والمؤسسات، فما كان يصلح للفعل بالأمس لم يعد صالحا اليوم، وما كان مقبولا فى الماضى لم يعد مقبولا فى الوقت الراهن، فما بالك بالمستقبل؟
أى نجاح كامل مرتبط باستكمال الفعل، وأى نجاح جزئى هو فشل جزئى، وفى بعض الأحيان فشل كلى. وأى جملة غير مكتملة هى جملة مشوهة، مهما بلغ مستواها البلاغى تظل عاجزة عن الوصول إلى المعنى المكتمل، تظل مثلها مثل النوايا الحسنة غير المرتبطة بفعل، تؤدى فى بعض الأحيان إلى جهنم أو إلى الفشل. نحن فى حياتنا الخاصة والعامة نحترف عدم إكمال الجملة، عدم إتمام الفعل. نبدع فى بدايتنا، انطلاقاتنا، ولكن لا نملك القدرة أو الرغبة فى الاستمرار بنفس قوة الاندفاع الأولى، يحدث هذا- كما ذكرت- فى حياتنا العامة، لذلك تظل النتائج دوما مرتبطة بعناصر خارج إرادتنا، ذلك لأننا أطلقنا الفعل ولم نرغب أن نستمر فيه بذات قوة البدء، بدأنا جملتنا ولم نستكملها.
تلح علىّ فكرة الجمل غير المكتملة منذ فترة، وزاد الإلحاح خلال متابعتى حركة المجتمع خلال الأعوام الأخيرة. عدم إكمال الفعل لازمنا مرة أخرى منذ سقط نظام مبارك، فقد سقط وبقيت عاداتنا التى لم تتغير فسقطنا نحن «غنيمة» سهلة فى أيدى القوة الوحيدة التى كانت منظمة إلى حد ما، وكان هدفها واضحا بلا ضبابية، الحكم والسيطرة كانا هما الهدف، ومارسوا كل الحيل والتحالفات غير البريئة وغيرها مع كافة القوى، واستغلوا العادة المتأصلة فينا عادة النفس القصير وعدم استكمال الفعل. لكن المصريين وجيشهم أدركوا خطورة ما وقعنا فيه من شرك فتحركوا وأسقطوا الإخوان وخلصوا مصر من قبضتهم.
وأصبحنا نملك نظامنا الوطنى الذى يسعى لإعادة بناء مصر الجديدة. وخطونا خطوات مهمة، ومازلنا، ولكن يظل الهاجس الرئيسى هو مدى قدرتنا على إكمال الفعل. هذا تحد كبير لن يتمكن النظام وحده من فعله، ولن يمتلك طرف القدرة على الانفراد به. الطريق الوحيد هو الإقتناع بأهمية استكمال ما نفعل شعبا وقيادة، ولن يحدث هذا إلا باقتناع الشعب بما يحدث وبأهمية دوره وبالفائدة التى ستعود عليه.
مشكلتنا الرئيسيّة فى استمرار الحوار الحقيقى مع الناس. نموذج الأداء الرسمى غير القادر على الاستمرار والتواصل هو إحدى مناطق الضعف الرئيسيّة التى نعانى منها حتى الآن. التواصل بمفهوم تطوير الأداء والاستمرار بقوة دفع متزايدة، والتواصل بمفهوم القدرة على إيجاد لغة مشتركة يتواصل بها المسؤولون مع البشر، مع الطرف الثانى- الذى هو نحن- يواجه مشكلة حقيقية، لذلك حتى لو امتلك الطرف الأول رسالة ما فإنه يعجز عن أن يوصلها إلينا، لأنه لا يمتلك أو لا يريد أو لا يعلم لغة الحوار وأسلوب التواصل معنا. لذلك تستمر حياتنا ومشروعاتنا عبارة عن نبضات تتسرب عبر حالة سكون اختيارية ارتضيناها حكاما ومحكومين. لا نملك الرغبة أو القدرة على استكمال الجملة التى نبدؤها، وفى بعض الأحيان نبدؤها بداية جميلة توحى بشىء أفضل، ولكن نعجز عن الاستمرار أو نُضرب عن الاستمرار.
نفتقد دوما الإجابة عن السؤال: وماذا بعد؟ نفتقد ما سبق أن أطلقت عليه ثقافة اليوم التالى، فنحن نعيش اليوم ولا نفكر فيما ينبغى أن نفعل غدا. حتى بدا الأمر وكأنه جزء من تركيبتنا، من ثقافتنا، من رؤيتنا لأنفسنا ولحضورنا ودورنا فى الحياة، جمل لا تكتمل، وأفعال لا تتم.
ويبقى السؤال: من الذى عليه عبء البداية، الطرف الأول أم الطرف الثانى، أم طرف ثالث لا نعلمه؟