في روايته الأولى البديعة، «حافة الكوثر» (الدار المصرية اللبنانية، طبعة أولى، القاهرة، يناير 2017)، يطأ، الشاعر والصحافي المصري الكبير، على عطا، أرضاً روائية جديدة بذهنية مختلفة وذائقة شاعرية مكثفة مغايرة لنمطية السرد الروائي، ومضيفاً إلى السردية المصرية المعاصرة. ويبني على عطا معماره الروائي في 25 فصلاً في 155 صفحة من القطع الصغير. وبعد الإهداء الدال، تتصدر الرواية مقولة ذات مغزى لنيكوس كازانتزاكيس وتعد مفتاحاً للرواية وحياة بطلها.
ويخاطبنا البطل والرواي الرئيس ويخاطب صديقه المغترب في منفاه الاضطراري، الطاهر يعقوب، بكل ما دار ويدور في حياته وسيرته من هموم وآمال وأحلام وأشخاص وذكريات.
وتدور أحداث الرواية عبر الحكي والتذكر في فضاء مكاني يتكيء على أصداء السيرة الذاتية للبطل حسين عبدالحميد على جاد الذي يعمل بالصحافة الثقافية في «وكالة أنباء المحروسة» ويبدع أدباً وحاضره المعيش وبين طفولته في مدينة المنصورة خصوصاً منطقة «المحطة الفرنساوي» وعيشه في القاهرة الكبرى ونزوله بمصحة الكوثر النفسية الذي دخلها ثلاث مرات في أربع سنوات لمدة 31 يوماً من شتاء 2012 إلى ربيع وبداية صيف 2015.
ومصحة الكوثر تقع في المعادي السرايات وتختص بمعالجة المرضى النفسيين ومدمني المخدرات من الرجال والنساء على حد سواء.
وزمان الرواية متنوع ومتقطع ومتعدد ويراوح بين الماضي والحاضر، بين ماضي البطل وبين السنوات التي قامت فيها ثورة يناير وما بعدها والتي دخلها فيه مصحة الكوثر ولا يتجاوز أغلب الظن العام 2015 على أقصى تقدير.
وتدور أحداث الرواية الزمنية القريبة والمؤدية بالبطل إلى دخول مصحة الكوثر، والتي لم تكن كوثراً أبداً، منذ أحداث ثورة 25 يناير وما تلاه والانتخابات الرئاسية بين الفريق أحمد شفيق والدكتور محمد مرسي والتي انحاز فيها البطل لمحمد مرسي وندم على المشاركة في كل الانتخابات التي أدت إلى وأد ثورة 25 يناير 2011، وثورة 30 يونيو ومابعدها.
وتستغل الرواية تقنيات التواصل الإلكتروني الحديثة مثل البريد الإلكتروني ووسائط التواصل الاجتماعي كالفيسبوك ورسائله الموجودة في الإنبوكس.
وتحتشد الرواية بذكر عدد من أسماء المثقفين والفنانين والشخصيات العامة والحضور الحقيقي لبعض شخصياتهم مثل ياسر عرفات وسعاد حسني وعبدالحليم حافظ، ومن الروائيين والشعراء أمثال إبراهيم أصلان وصلاح جاهين وأنسي الحاج وأمل دنقل وحلمي سالم والمتوكل طه ومراد السوداني ومحمد حلمي الريشة وغسان زقطان وباسمة التكروري التي نادت البطل قائلة: «عمو»، فاغتاظ منها، ومن الأجانب نيكوس كازانتزاكيس وإيزابيل الليندي، وتشير إلى بعضهم بأسماء بديلة أو غير بديلة، مثل الكاتب سميح جرجس المقيم في هولندا في إشارة إلى الكاتب رؤوف مسعد، والقاص والروائي غريب الأطوار محمود عبدالحميد، والشاعرة المترددة في نشر قصائدها مي عبدالكريم التي كانت ترسل باقة ورد إلى البطل في كل مرة يدخل فيها المصحة، والشاعر الكبير حامد عبدالدايم، والروائية سميرة الكردي، والروائية سعاد سليمان، والروائية ناهد عثمان.
وتلعب المرأة دوراً رئيساً في حياة البطل وربما دخل المصحة النفسية بسببها. فهناك سلمى السكري التي تناكف البطل بطلبات لا تنتهي وخواطر تضعها على صفحتها على الفيسبوك مستهدفة البطل بأذي ما بين سطورها وتجبره على الزواج منها، وامرأة أخرى هي دعاء مستجاب وزوجته التي تقضي كل الليل مع المسبحة وإذاعة القرآن الكريم وفي التلصص على زوجها النائم وما يقوله وتفتيش ملابسه وموبايله والهاندباج الخاصة به، بحثاً عن أي شيء يوضح علاقته بسلمى السكرى، المرأة الأخرى في حياته التي تزوجها منذ فترة، وتقرأ دائماً في المصحف والأذكار، والابنة الكبرى حنان، والابنة حنين، والطفلة الحفيدة علياء المصابة بالسرطان.
وعائلة البطل حاشدة ويأتي ذكرها مكثفاً مثل الأب والأم وجدته لأمه انتصار وجدته لأبيه ست الدار ذات الأصول التركية التي كانت نموذجاً لا شفاء منه وحتى رحيلها في حوالي سن 90 عاماً، والجد الأسطوري الأسطى توفيق ريحان يوسف الذي تزوج من أربع سيدات، والخال الشهيد محمد توفيق ريحان يوسف، وغيرهم.
وكان سفر البطل بعد ميلاده مع أمه إلى القاهرة بداية لارتباط دائم بالقاهرة وكأنه منذ الميلاد منذور للعيش بها حتى أنه لم يلحق بدفن والده نظراً لعمله بها. وما بين الميلاد والموت، يحس البطل بغربة قاتلة ودنو أجله؛ فأبوه مدفون في مقبرة صدقة في المنصورة، وأمه كذلك، وهو سوف يدفن في مقبرة شيدها على طريق الواحات البحرية بالقرب من مدينة 6 أكتوبر.
وفي الكوثر، يطالعنا الرواي/البطل الذي أصابه الاكتئاب، فدخل إلى الكوثر بشخصيات عديدة وضفرها في سبيكة روائية ضافية. وتشكل حكايات هؤلاء النزلاء بالكوثر بانوراما إنسانية ودراما مأسوية؛ فنتعرف إلى ونسمع حكايات وأنات ومآسي الشاعر حامد عبدالدايم، والخمسيني أحمد جمال الدين مدير مخازن فرع إحدى شركات المقاولات في منطقة المعادي، والحب المحرم بين مجدي وعمته نهاد التي يحبها بكل شدة، وتامر عبدالصادق، وعميد هندسة المطرية طارق مراد، وأحمد عبدالحميد، وأحمد أبوالمجد، وعادل حامد، والصيدلي الدكتور عامر الإسناوي الذي قتل ابنة شقيقته، ورئيس المحكمة فؤاد سالم الذي يريد الحكم بشرع الله، وضابطا الشرطة أيمن مجاهد ومحمد لبيب، ومحمود صابر، وحسن توما الذي يدعي صلة قرابة بالفنان الراحل حسين صدقي صاحب المسجد الذي يحمل اسمه في المنطقة، وطارق حجازي الذي قام بفصل أجزاء المصحف عن بعضها البعض حتى يسهل على نفسه حفظه أو تجديد حفظه له لأنه يحفظ كتاب الله كاملاً؛ فاتهم بتمزيق المصحف وهي تهمة جد خطير حتى داخل أسوار المصحة الذي يحلم بتشكيل الوزارة، ومحمد الشرقاوي، ومحمد عبدالحميد، وبيشوي، وغيرهم.
وتتكون إدارة الكوثر من عدد من الشخصيات مثل المدير الدكتور عادل عبدالنعيم زاهر أخصائي الطب النفسي والأعصاب، والدكتور نعيم حماسة، والطبيب الشاب حسام شاكر، والدكتور عادل رأفت الذي يحب القراءة مثل البطل، وعدد من الممرضات والممرضين، أمثال الممرض أيمن سالم.
والرواية بها جزء من المعلوماتية عن المعادي ومصحة الكوثر ومسجد حسين صدقي والخلواتي الشيخ الصالح العابد شاهين المحمدي، ونظام المصحة وقواعد النزلاء بها والاكتئاب والصحة والنفسية والأدوية المعالجة له، وغيرها.
ولغة الرواية شعرية خالصة رهيفة شفيفة عذبة تنتقي ألفاطها بدقة بالغة وهي مكثفة وشديدة الاختزال وتمازج بين الفحصى والعامية المصرية المفصحة كلغة ثالثة.
وتقدم الرواية أحداثها بخطوط شفيفة، وتلقي عليها الظلال، ولا تقدم للقاريء بشكل كل التفاصيل، وإنما تترك الأمر لمخيلته لاستكمال ما غمض عليه أو ما تعمد الكاتب إغفاله بقصدية ماكرة تهدف إلى إجهاد القاريء لإكمال البازل الروائي الذي برع الكاتب في توزيعه على جسد الرواية بمنتهى المهارة ومكوناً روايته من قطع عديدة من الفسيفساء التي تشكل لوحته الروائية التي على القاريء إعادة تجميعها وفقاً لمخيلته وثقافته وأساليب الاستقبال المعرفية لديه.
إذن هي رواية شديدة التركيز والكثافة وتريد من القاريء تركيزاً شديداً لدى قراءتها ولا تتركها إلا عند آخر صفحة من صفحاتها، وتجعلنا نلهث وراءها ونقف على أطراف أطابعنا من شدة سرعة أحداثها وتعدد وتنوع شخصياتها.
وتشكل الرواية، أغلب الظن، جزءاً من بداية مشروع روائي خصب وممتد للكاتب في روايات قادمة توجد بذورها في ثنايا هذه الرواية مما يرشحها كي تكون المنجم الذي سوف يستلهم منه الروائي روايات أخرى تجعل من ثقافة المدينة الدلتاوية الصغيرة، المنصورة، بؤرة لأحداث في سياق أكثر فرادة واختلافاً وكثافة وتركيزاً وفي إطار معرفي يراوح بين الماضي والحاضر وبين الإدراك الكامل والوعي المسلوب.