أن تستورد دولة - أى دولة - احتياجاتها الغذائية.. فهذا ليس عيباً. بشرط أن تقوم بتصدير العديد من منتجاتها هى.. بحيث لا يحدث أى خلل فى الميزان التجارى.
ولكننا مادمنا نغلب الدور التجارى على الدور - والواجب - الصناعى، فإننا نستورد الآن كل شىء.. حتى أشهر ما كان معروفاً أنه «طعام» مصرى خالص.. ذلك أننا كنا نستورد حبوب الفول المستخدم فى صناعة «المدمس»، مسمار البطن للأغنياء والفقراء.. كنا نفعل ذلك.. وفى الأسواق المصرية الآن فول مستورد من أستراليا ومن كندا.. وهم هناك بالمناسبة يقدمونه غذاءً للخيول.. وللماشية أحياناً. كما نستورد الفول من دول أخرى ربما من أمريكا الجنوبية.. ولكن الغريب أن مصر باتت تستورد الفول المدمس جاهزاً ومعلباً.. وما عليك إلا فتح العلبة. ومنه فول بالخلطة الدمياطى. أو الإسكندرانى. أو الفول الصحيح.. أو مقشور حار بالشطة أو عادى دون شطة.. والمضحك المبكى أن هذا الفول المدمس يتم تصنيعه فى دولة ليست منتجة للفول أصلاً.. وليس لها أى تاريخ فى الزراعة.. فما بالكم بالمدمس!! فهل هانت علينا نفوسنا إلى هذا الحد، ونسينا قدرة الفول التى تدفن من رماد المستوقد، أو أى فرن بلدى.. لتأكل كالزبدة!! وأغلب الظن أن أحد خبراء المدمس المصرى «باع» سر هذا المدمس إلى هذه الشركة لتقوم بتصنيعه فى علب نظيفة.. وحسب الأذواق.. والعلبة بحوالى خمسة جنيهات، وربنا يرحم مطبقية الفول الصاج المطلى التى كنا نملؤها بقرش صاغ واحد لا غير!!
وليت الأمر يقف عند طبق الفول.. بل هذه هى وجبة مصرية أخرى - صميمة - هى «طشة» تقلية الملوخية.. وكلها أيضاً مستوردة!! فالثوم مستورد من الصين، والزبدة من شمال أوروبا، والسمن من نيوزيلاندا، والسمسم من السودان وتركيا، والكسبرة من قبرص وجنوب تركيا.. أما الملوخية.. فهى من حشائش الأرض.. ناقص نستورد مقلاية نصنع فيها هذه الطشة.. وربما نستوردها أيضاً!!
ومع انخفاض عدد ومستوى العجول - بالجيم وليست بالقاف - وارتفاع سعر اللحوم المستوردة أيضاً.. لماذا لا نستورد «الكوارع» أو المقادم، من قدم كما ينطقها الإخوة الشوام؟ فنحن نستورد كل ما فى البقرة وفى أحشائها من كبد وكلاوى ومخاصى، ولسان، وحلويات بطن.. فلماذا لم نفكر حتى الآن فى استيراد الكوارع، وقد ارتفع سعر الكارع البقرى متوسط العمر إلى 80 جنيهاً.. والعجالى الكبير إلى 90 و100 جنيه.. أما البتلو فقد اختفى رغم أن «شوربته» يدوبك مثل شوربة الفول النابت.
ثم هذه دعوة لاستيراد شوربة العدس جاهزة مادمنا نستورد أكثر من 70٪ مما نأكل من عدس!! ولكن هل يضيفون إليها - كما تفعل الست المصرية - بطاطس وكوسة وجزر وطماطم ورأس ثوم. وماذا عن تقلية شوربة العدس بالطريقة المصرية: بالسمن والثوم!! وناقص نستورد حلل المحشى!!
وما أقوله ليس من باب السخرية.. ولكن بسبب انهيار الزراعة المصرية فى كل الأنواع.. وهذه ليست مسؤولية وزارة الزراعة وحدها. ولا مشتركة مع وزارة الرى.. ولا هى أيضاً مسؤولية وزارة الصناعة.. بل هى مسؤولية كل المصريين الذين انهارت مستويات عملهم وإنتاجهم.. وتطبيقاً لمقولة «عيشنى النهاردة.. وموتنى بكره»، فالمصرى لم يعد يهتم كما يجب بالغد.. وما تحمله لنا الأيام. وأصبحنا نستسلم.. ونلجأ للأسهل.. وهو الاستيراد.
ولكن ضعف الحكومة، وخوف السلطة، جعلنا نتمادى فى الاستيراد لسد حاجة السوق دون أن نعمد إلى زيادة حقيقية للإنتاج.. ويكفى أن إنتاج فدان الأرض عندنا - من أى محصول - لا يعادل ربع إنتاج أى فدان فى أى دولة غيرنا.. وتلك هى مسؤولية وزارة الزراعة ومعاهد ومراكز البحوث الزراعية التى كانت من مفاخر كل المصريين.. فهل انتهى كل ذلك؟!
■ ■ وأرى أن الحكومة تقوم «بتدليع الشعب» وترفض شد البطن ولو بمنع استيراد هذه السلع.. حتى ولو كانت أسعار استيرادنا أقل من تكاليف إنتاجها داخل مصر.. وبالذات من هذه السلع الأساسية الشعبية.. من فول وعدس وثوم.. وكوارع!!
■ ■ وأرفض مقولة إن من يرد هذه السلع - وغيرها من سلع رفاهية- فعليه أن يدفع تكاليف استيرادها، فهذا يضرب وجود استراتيجية متكاملة للزراعة والصناعة.. هو يعنى لازم كنافة بالكيوى والكاجو.. والفسدق المبشور.. وماله صينية الكنافة بالكريمة أو الجبنة الحلوة أو المهلبية!!
■ ■ مطلوب كثير من الحسم، والحد من الاستيراد.. أو انتظروا استيراد المقلاية والصوانى.. وصلصة الطماطم المستوردة.. أو نقف على أبواب الجوامع ونحن نسأل المصلين: لله يا محسنين!!