x

الكتاب الأخير لمحمود عوض «اليوم السابع.. الحرب المستحيلة.. حرب الاستنزاف»

الخميس 25-03-2010 13:59 | كتب: نشوي الحوفي |
تصوير : other

هل يخلع الموتى أكفانهم ويعودون للحياة؟ هل بعد اليأس رجاء؟ أسئلة تستنبطها وأنت تقرأ مقدمة الكتاب الأخير، الصادر للراحل محمود عوض، والذى حمل عنوان «اليوم السابع.. الحرب المستحيلة.. حرب الاستنزاف»، وقد استهله بمقدمة استعرض فيها أجواء الأيام التالية للنكسة فى يونيو عام 1967، متنقلا ما بين عواصم العالم العربى والغربى وردود الفعل على عملية «قتل الديك الرومى» وهو الاسم الكودى لعملية التخلص من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذى استقبل النكسة وما تلاها بعبارة: «لقد عرفوا كيف يصطادونى».

فموسكو استقبلت فى أعقاب النكسة كلا من رئيس الجزائر «هوارى بومدين» ورئيس العراق «عبدالرحمن عارف» لتخبرهما بغضبها للفشل العربى الذى انتهى باستيلاء إسرائيل وأمريكا على السلاح الروسى ليعرفا أسراره. بينما تلقى الرئيس الأمريكى «ليندون جونسون» فى واشنطن تقريراً عن نجاح أهداف الحرب الإسرائيلية فى دحض كل دعاوى العروبة والقومية لدى الدول العربية التى لم تعد لها حياة إلا أن تعيش منعزلة منكفئة على جراحها. أما يوغسلافيا فقد استقبلت عاصمتها بلجراد خطابا من الرئيس الأمريكى يخبر فيه نظيره «جوزيف تيتو» بأنه لن يدفع مصر إلى ذل أكثر مما تعرضت له. ولكن عليها ألا تعترض على أى ثمن على العرب سداده.

فى الوقت ذاته كان الملك فيصل فى الرياض يبلغ غضبه للسفير الأمريكى مطالبا إياه بالانسحاب الإسرائيلى من سيناء والقدس والجولان والضفة الغربية، أى الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى 5 يونيو من عام 1967. أما الرئيس ناصر فكان قراره بترحيل أسرته خارج حدود القاهرة، واضعاً مسدسه بجواره دوماً، خاصة أنه لم يعد يفصل إسرائيل عن ابنة المعز سوى 7 دبابات. هكذا كانت أحوالنا العربية فى تلك الأيام، ولذا كان التفكير، مجرد التفكير، فى حرب جديدة مع إسرائيل فى ظل تلك الظروف، ضرباً من الجنون.

أهم ما فى كتاب الراحل محمود عوض، ليست الوقائع التى تبعث فى النفس الفخار والرغبة فى استعادة ماض كان يعيش فيه رجال، ولكن أيضاً حكايات موثقة تثبت أن ما يتحدث عنه ليس مجرد حديث ولكنه حقائق علينا تذكرها لنعرف أين كنا وأين بتنا. فحرب الاستنزاف التى اعتبرتها إسرائيل والولايات المتحدة فى بدايتها مجرد حلاوة روح لعبد الناصر والمصريين، وأصروا على وقفها بلا شرط ولا قيد فى البداية، وكبدوا خلالها المصريين نحو 7000 شهيد غير آلاف الأطنان من المتفجرات التى كانت تتساقط على رؤوسهم بين الحين والآخر، كلها لم تقهر المصريين ولم تذلهم بل أجبرت كل أطراف اللعبة على إعادة الحسابات مرة أخرى بمرور الأيام. ومن بين تلك الوثائق رسالة سرية أرسلها وليام روجرز، وزير الخارجية الأمريكى، لنظيره المصرى محمود رياض يتحدث فيها عن موافقة بلاده ولأول مرة على طلب مصر الربط فى أى تسوية بين سيناء وبقية الأراضى العربية المحتلة، بعد أن كان الحديث عن سيناء فقط وبالكامل. وهنا نتوقف قليلاً لمن يزايدون على مصر وشعبها.. فلم يكن هدف المصريين فى استنزافهم إعادة سيناء وحسب بل إعادة الأرض العربية المحتلة كلها.

يبدأ الكتاب فى فصله الأول بالحديث عن لحظة الانفجار قبل التاسعة بدقائق فى صباح يوم 5 يونيو عام 1967، حينما تعطلت شاشات الرادار فى المطارات المصرية ثم ما هى إلا ثوان حتى كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف تلك المراكز بالقنابل لتعلن بدء الحرب التى تنبأ بها ناصر وسأل قادته قبلها بثلاثة أيام عن توقعاتهم لحجم خسائرها إن وقعت. فأجابوه أنها تتراوح بين 15 % و 20 % إن بدأت إسرائيل بالحرب، وهو الأفضل من وجهة نظر المشير عبدالحكيم عامر حتى لا تكون مصر البادئة فتحارب إسرائيل. وهو ما ثبت خطؤه فيما بعد على المستويين السياسى والعسكرى.

فى عرضه للأحداث يمر محمود عوض على أصل النكسة وما سبقها من استفزازات إسرائيلية ضد الأردن وسوريا إلى حد تصريح إسحق رابين، رئيس أركان حرب القوات الإسرائيلية، فى 12 مايو 1967 بالقول: «سنشن هجوماً خاطفاً على سوريا ونحتل دمشق لنسقط نظام الحكم فيها ثم نعود». كانت الأنظمة الدعائية العربية تقود المنطقة، وفى مقدمتها مصر، لحافة الهاوية مرددة أن إسرائيل لم تكن لتستأسد لو لم تكن مصر غير قادرة على ردها، بعد أن استكانت منذ عدوان 1956 الثلاثى، خلف القوات الدولية الموجودة فى سيناء. وهى فكرة لم تكن صائبة لأن عدد القوات الدولية لم يكن يتجاوز 2300 جندى. ولكن كانت إسرائيل قد أخذت قرار الحرب منذ عام 1964 لأسباب كثيرة، أهمها أن ربع الجيش المصرى كان فى اليمن، كما أن تقديرات المخابرات الإسرائيلية كانت تشير إلى أنه بحلول عام 1970 سيكون الجيش المصرى قد بلغ من القوة من حيث العدد والتسليح ما يمكِّنه من ردع القوة الإسرائيلية، ثم أن الولايات المتحدة، ومنذ تولى جونسون الحكم، وهى تتخذ موقفاً معارضاً من التيار القومى فى العالم العربى وفى مقدمته مصر.

فى تلك الفترة سعت مصر لدعم الجبهة السورية المهددة فطلبت من قوات الأمم المتحدة الانسحاب مؤقتاً من الحدود المشتركة مع إسرائيل، دون الانسحاب بشكل كلى، إلا أن الأمين العام للأمم المتحدة وقتها «يوثانت» أعلن إما البقاء وإما الانسحاب التام، فكان رد مصر سحب قوات الأمم المتحدة من كل المواقع نهائياً. لتقرر مصر تحريك قوة لها لشرم الشيخ وهو ما كان يعنى غلق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. لتبدأ الاستعدادات الإسرائيلية الأمريكية لضرب مصر وقتل ديكها الرومى فى 5 يونيو 1967 التى ركزت أولى طلعاتها على ضرب أجهزة الرادار والممرات العسكرية المصرية بقنابل شديدة الانفجار تم تصميمها كى تترك حفراً عميقة بقطر 7 أمتار حتى تظل الطائرات عاجزة عن الطيران تمهيداً لضربها فى الطلعة الثانية وتدميرها، وهو ما حدث.

ويمر الكتاب فى استعراض ما تلا ذلك اليوم الكئيب من أحداث سياسية. من إعلان القاهرة قطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن، وضرب سفينة التجسس الأمريكية «ليبرتى» فى البحر المتوسط من قبل إسرائيل، وكذلك فوضى الانسحاب غير المدروس لأفراد القوات المسلحة المصرية من سيناء. كان هدف السياسة الأمريكية وقتها، وكما جاء فى مذكرات «والت روستو» مستشار الأمن القومى الأمريكى وقتها، هو فرض منطق الأمر الواقع لتحقيق تسوية تنتهى بالاعتراف بإسرائيل. وهو ما تحقق بالموافقة على قرار وقف إطلاق النار البسيط فى الأمم المتحدة دون إجبار إسرائيل على الانسحاب إلى مواقع ما قبل الحرب، يوم 6 يونيو، وهو القرار الذى قبله العرب على التوالى. وهكذا مضت خطة قتل الديك الرومى فى طريقها كما يسر لها. وأدركت مصر حجم الخديعة التى تعرضت لها على كل المستويات، ومن قبل عرف النظام أن الفشل الداخلى قاد لتلك الهزيمة النكراء التى لم تكن البلاد مستعدة لها.

اكتملت المأساة إلا من شىء واحد لم تكتبه الخطة فى سطورها، كان هذا الشىء هو طبيعة المصريين التى لا يستطيع أحد أن يتنبأ بها أو يحدد معالمها، فلم يثر المصريون على عبدالناصر ولم يطالبوه بالتنحى بل على العكس تمسكوا به بحرارة. والأدهى أنهم استعدوا للثأر بعد أيام من الهزيمة التى كانت قادرة على محو مستقبل أى أمه أو تأجيله لسنوات، حتى إن الرئيس الأمريكى ليندون جونسون كان ينتظر خبر الانهيار الداخلى لمصر وفناء زعيمها، سواء بثورة شعبية أو انقلاب عسكرى. ثم أفاقت الدول العربية يوم 27 يونيو من عام 1967 على مشروع الكنيست الإسرائيلى ببسط الحكومة لسيادتها على القدس الشرقية المحتلة، بل ويفوضها فى اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لذلك. وهو القرار الذى رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف به، لا لشىء سوى أنه لم يتم التنسيق معها بشأنه. وهو ما عبر عنه «أبا إيبان»، وزير خارجية إسرائيل، بالقول فى مذكراته: «كانت غلطتنا الرئيسية فى شأن القدس أننا لم ننسق موقفنا مع الولايات المتحدة مقدماً، وهى غلطة لم نكررها فى المواضيع الأخرى». ويعلق الكاتب الراحل محمود عوض على وضعية القدس بين الولايات المتحدة وإسرائيل بالقول: «ما تسعى إليه إسرائيل اليوم ليس ضم القدس، فهى قد ضمتها فعلاً، ولا هو رفع علمها هناك، فهو مرفوع منذ سنة 1967، ولكن الذى تسعى إليه إسرائيل هو الحصول على الغطاء الأمريكى.. فهذه هى الشرعية الوحيدة التى تعيش بها إسرائيل وتضم وتتوسع».

وتأتى قمة الخرطوم التى تؤكد زعامة عبدالناصر العربية والتأييد العربى لاستعادة الأرض ماديا ومعنوياً. وخرجت القمة بلاءاتها الثلاث: «لا للتفاوض، لا للتصالح، ولا للاعتراف بإسرائيل».

وينتقل الكتاب لحالة الغليان الشعبى من النكسة، حتى كانت المواجهة الأولى فى 1 يوليو، حينما حاولت القوات الإسرائيلية برا وجواً الاستيلاء على «رأس العش» الجزء الوحيد الباقى من سيناء تحت السيطرة المصرية، ورغم ضعف القوة العسكرية هناك إلا أنها كبدت العدو درساً عبر تحطيم 3 دبابات وقتل عدد من جنوده. وتبرز عزيمة المصريين مرة أخرى يوم 14 يوليو، حينما فوجئ الطيران الإسرائيلى بعشر طائرات مصرية من طراز ميج 17 تتصدى له، بينما عشر طائرات أخرى تتأهب للانضمام للمعركة. لتنسحب الطائرات بعد إصابة إحداها. وتتواصل العمليات ففى 21 أكتوبر من نفس العام حينما اقتربت المدمرة إيلات من المياه الإقليمية المصرية كمظهر من مظاهر الغطرسة الإسرائيلية المتكررة، فيكون القرار بتدمير إيلات أكبر قطع البحرية الإسرائيلية، باثنين من زوارق الصواريخ من طراز «كومر» وهو ما عُد وقتها انقلابا فى الحرب البحرية.

ثم كان القرار بضرب إيلات ذاتها عبر قوات مصرية خاصة تم إنزالها فى ميناء العقبة الأردنى ليقوموا بالسباحة حتى ميناء إيلات وما هى إلا ساعات حتى سُمع صوت الانفجار. فى تلك الأثناء كان القرار المصرى بتهجير 400 ألف مصرى من مدن القناة، قبلوا الرحيل من أجل عيون مصر وأمنهم.

كما ينتقل الكتاب إلى مرحلة الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، التى بدأت فى يناير 1969 والتى عرفت وليم روجرز، كوزير خارجية، وهنرى كيسنجر، كمستشار لشؤون الأمن القومى. كان الأخير يهودى صهيونى متعصب لإسرائيل يتحرق لصياغة المنطقة كما يتراءى لمصالح الصهيونية. فى بداية تلك الحقبة أرسل نيكسون مبعوثاً للرئيس عبدالناصر فى القاهرة معبراً عن توازن تتجه نحوه السياسة الأمريكية، ثم بادر فى فبراير من نفس العام بالإعلان عن سياسة أمريكا الجديدة قائلاً: «لن نجلس لننتظر حدوث شيىء آخر». ولكنه وفى نفس الوقت أعلن عدم انفراد الولايات المتحدة بالتصرف فى أزمة الشرق الأوسط، مؤكداً أن الحل لن يأتى إلا بتشاور الدول الأربع الكبرى وقتها وهى الاتحاد السوفييتى وفرنسا وبريطانيا بالإضافة للولايات المتحدة. وفى يوم 17 فبراير من عام 1969 أذيعت تصريحات مثيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلى ليفى أشكول قال فيها إنه مستعد لمناقشة مشاكل المنطقة مع الرئيس عبدالناصر والسفر للقاهرة داعياً لتجربة إسرائيل ومنحها الفرصة. ولكن الجميع كان يعلم أن هذا العرض ليس به سوى كلماته الفارغة من أى مضمون، فإسرائيل لم تكن تريد سوى إبعاد مصر عن صراعها مع العرب. نعم كانت مستعدة كما يقول محمود عوض فى كتابه للانسحاب الكامل من سيناء وإعطاء قطاع غزة بالكامل لإدارة الأمم المتحدة مقابل إعلان مصر إنهاء حالة الحرب بمفاوضات مباشرة، لو تيسر ذلك. وهو ما كانت تقبله الولايات المتحدة. إلا أن موقف مصر كان ثابتاً بل إنها استأنفت حرب الاستنزاف فى 8 مارس 1969، بعد تغيير طال الكثير فى قطاعات الجيش المصرى، الذى بات معظمه من حملة المؤهلات العليا والمتوسطة، كان يتم تزويدهم بين الحين والآخر بتطورات الموقف السياسى.

حتى إن وكالات الأنباء أعلنت أن ما قامت به المدفعية المصرية فى غرب القناة يوم 8 مارس يمثل قفزة جديدة فى قدرات مصر العسكرية. وهو ما ردت عليه إسرائيل فى اليوم التالى بقصف مكثف انتهى باستشهاد الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة. وهو ما أعاد تعاطف الشارع مع العسكريين بعد أن ظل يحمِّلهم منذ وقوع النكسة سببها. ولذا ولمكانة الرجل، كان عبدالناصر فى مقدمة جنازة هذا الشهيد، الذى بات يوم استشهاده يوماً لكل شهيد مصرى. فى ذات الوقت كان رابين، سفير إسرائيل بواشنطن، يكتب لحكومته مؤكداً أن العمليات المصرية تؤثر بشكل مباشر على المباحثات الأمريكية - السوفييتية. مطالباً إسرائيل بسحق رغبة مصر فى المضى فى حرب استنزافها. حاولت إسرائيل فعل ذلك عبر العديد من العمليات ومنها ما قامت به فجر 9 سبتمبر 1969، حين أنزلت مجموعة سرية مختلطة بتسع دبابات برمائية على شاطئ خليج السويس الغربى قرب نقطة حدود الزعفرانة، وقضت على أفراد تلك النقطة الخمسة، بل وصورت إسرائيل فيلماً لقواتها الهابطة فى المنطقة لمدة 6 ساعات ثم عادت من حيث أتت.

وسرعان ما تم بث الفيلم على أنه عملية «غزو مصر». علم عبدالناصر الذى كان فى زيارة سرية للجبهة، فأمر رئيس هيئة الأركان أحمد إسماعيل ومستشاره السوفييتى بالتوجه للزعفرانة لاستطلاع الأمر وعاد هو للقاهرة، ولكنه علم فى المساء أن المستشار السوفييتى توجه بمفرده للمنطقة بينما مكث رئيس الأركان فى مكتبه بالقاهرة، فأمر بإحالته للتقاعد. يومها كان عبدالناصر، وكما ذكر المقربين منه، يعانى حالة غضب شديدة مما تروجه الدعاية الصهيونية لدرجة إصابته بنوبة قلبية حادة ليحبس فى فراشه بأمر الأطباء 7 أسابيع كاملة. كان رجال القوات المسلحة يركزون كل تفكيرهم على خط بارليف، الذى أقامته إسرائيل على الجانب الآخر من القناة. كان يشبه عمارة من 7 طوابق ولكى يتم العبور لابد من تسويته بالأرض. كان التفكير يجرى على قدم وساق وكان الرجال قد شطبوا من قاموسهم كلمة «مستحيل».

كانت وحدات الكوماندوز المصرية تقوم منذ أبريل عام 1969 بعبور القناة والهجوم على المواقع الإسرائيلية لتزيد خسائر الإسرائيليين، الذين قرروا دعم قواتهم بالسلاح الجوى على أهداف مصرية مدنية وعسكرية. كانت جولدا مائير تنظر لتلك العمليات المصرية على أنها مجرد استعداد لعبور شامل يخطط له المصريون وكان كل همها تحقيق أكبر حجم من الخسائر لهم، وهز ثقتهم. بينما كان رابين، سفيرها فى واشنطن، يؤكد لها اعتقاد الأمريكان فى قدرة العمليات الإسرائيلية على زعزعة نظام عبدالناصر وإضعاف صورته. ولكن مصر لم تتراجع ولم تتقهقر.

وفى 9 نوفمبر 1969 يرسل وليم روجرز، وزير الخارجية الأمريكية، رسالة لنظيره المصرى محمود رياض يعرب فيها عن الانسحاب الشامل من سيناء ووضع جدول لتسوية قطاع غزة واللاجئين الفلسطينيين، مع وعد بعدم نزع مصر من سياقها العربى وإيجاد تسوية شاملة لبقية الأرض المحتلة. إلا أن رد مصر لم يكن سوى أنها تنتظر الموقف الأمريكى المحدد بالنسبة للأراضى العربية المحتلة. بينما اعتبرت جولدا مائير تلك الخطة الأمريكية كارثة لا يمكن قبولها. كان الإسرائيليون يعلمون أن السياسة الأمريكية لا تعمل سوى لمصلحتها، وأن تغيير تلك السياسة لصالحها لن يتم إلا بوقف حرب الاستنزاف المصرية ولن يحدث ذلك سوى بتوجيه ضربات ساحقة لعبدالناصر ترغمه على إعادة التفكير فى جدوى الحرب.

وهو ما بدأ فى ليلة 24 ديسمبر 1969، حينما قام الكوماندوز الإسرائيلى المحمول بالطائرات بغارة جوية ناجحة على محطة رادار مصرية عند رأس غارب، قتل فيها أفراد الطاقم المصرى وفك الجهاز واستولى عليه، وهو ما كان يعنى قدرة إسرائيل على اختراق المجال الجوى المصرى وتدمير ما شاء لها من قوات الجيش، وهو ما حدث فى 25 ديسمبر حينما قامت 264 طائرة إسرائيلية بغارات جوية على جميع المواقع المصرية من الثامنة صباحاً وحتى الرابعة والنصف عصراً وبلا توقف، ملقية آلاف الأطنان من القنابل الزمنية وغير الزمنية. وتطور الهجوم الإسرائيلى مع مجىء عام 1970، حينما بدأت طائرات الفانتوم فى شن هجومها فى العمق المصرى مسقطة قنابلها على بعد 12 ميلاً من القاهرة. ورغم ذلك لم يرضخ عبدالناصر ولم يمت المصريون بل على العكس كان طلبهم للثأر يزداد فى كل يوم.

ويسافر عبدالناصر فى رحلة سرية لموسكو من 22 – 25 يناير يطلب فيها سلاحاً ودعماً روسياً لمصر، ويتباطأ السوفييت فى الرد فيهدد عبدالناصر بتقديم استقالته لمنح أحد المصريين، المرحبين بالحوار مع الولايات المتحدة، الفرصة لتغيير وجه المنطقة. وهو ما يجبر السوفييت على مد مصر ليس هذا فقط بل وجه رئيس الوزراء السوفييتى كوسيجين رسالة غير معلنة للرئيس الأمريكى هدد فيها بتدخل السوفييت فى الرد على الغارات الإسرائيلية على البلاد العربية ما لم تتوقف إسرائيل عن تلك المغامرات. وهو ما ردت عليه أمريكا فى 2 فبراير بتهديد مصر بالتوقف التام عن حرب استنزافها دون شروط وإلا فإن الغارات الإسرائيلية ستستمر بشكل أعمق. وهى نصيحة أو تهديد رفضته مصر. لتتواصل حرب الاستنزاف حتى قبولها مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار فى يونيو من عام 1970.
 

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية