في مساء يوم خريفي، بالتحديد في الخميس، الثاني عشر من أكتوبر في العام 1988، لم يتوقع أحد من «شلة الحرافيش» أن صديقهم، نجيب محفوظ، المُعلن قبل سويعات قليلة، أنه أول أديب عربي يفوز بـ«نوبل» أرفع جائزة أدبية في العالم، سوف يلتزم بموعده الأسبوعي الدقيق، لكن الرجل الوقور خيب توقعاتهم، وفي الخامسة والنصف، كان على أعتاب «كازينو قصر النيل»، ربما تلك التفاصيل الهامشية المُتمثلة في الدقة ووضوح الهدف والزهد مجتمعين، كونت شخصية «محفوظ»، ومكنته من أن يكون أكثر المبدعين العرب جدارة بوصف «الأديب الكوني»، بإبداعه السامق وحده، لا بـ«نوبل في الآداب» ولا بغيرها من الجوائز.
نجيب محفوظ «صاحب القلب الوديع» كما وصفه الناقد رجاء النقاش، كان يمتلك مشروعًا محددًا في الحياة لا تشغله جوائز ولا أضواء ولا خصومة مع سُلطة، نذر حياته في سبيل الكتابة، وترفع عن العداوات الصغيرة مع مجايليه من أجل تحقيق ما يريد، وكان مشروعه بسيطًا يتمثل في إنجاز كتابة معبرة عن البشر الذين يعيشون من حوله، وتعبر في نفس الوقت عن الإنسانية في تسامحها، عنفها، سموها، وانحدارها في آن واحد، عبر نصوص تميزت بالتدفق السردي واللغة فائقة العذوبة وشخصيات روائية تماثل في حركاتها المجتمعية وبنائها النفسي شخصيات من صلب الطبقات الاجتماعية، على طه، الشيوعي الحالم في «القاهرة الجديدة»، سرحان البحيري، الانتهازي المحتال في «ميرامار»، سمارة بهجت، الصحفية المثالية في «ثرثرة فوق النيل»، السيد أحمد عبدالجواد، المتجبر العائلي في «الثلاثية»، وغيرهم كثير.
مصر فيما يقارب القرن من الزمان بكل صخبها وتطالعاتها وانتصاراتها وانكساراتها أيضا، وصمتها أحيانًا، مكتوبة بحرفية وعمق شديدين بين ثنيات سطور أكثر من خمسين رواية ومجموعة قصصية من إبداع نجيب محفوظ.
انحاز «محفوظ» في كل أعماله الأدبية إلى اللغة العربية الفصحي كأداة تواصل بين شخصياته مهما انحدرت مستوياتهم الاجتماعية ومقدار تحصيلهم العلمي، أو كونهم فتيات ليل أو حتى شحاذين أو أرباب سوابق، تكاد لا تجد جملة واحدة بـ«العامية» في كل نصوص «محفوظ»، وبدا انحيازه للفصحى موقفًا أدبيًا صلدًا سانده فيه عميد الأدب العربي طه حسين، فيما هاجمه بضراوة نقاد شباب وقتها: لويس عوض ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، وبلغ الانتقاد أشده في رأى «أنيس» الذي يفيد أن «محفوظ» «يستفز القارئ» بسبب استخدامه حوارًا بالفصحي على لسان شخصيات من الأحياء الشعبية، فيما فسر أديب نوبل في حوار صحفي مع الناقد فؤاد دوارة، مهمة الأدب في علاقته باللغة بأنه «ارتقاء بالعامية وتطور للفصحي لتتقارب اللغتان».
إنجاز المشروع الأدبي العملاق لـ«محفوظ»، تطلب منه فضلا عن الدقة وتحديد الهدف، الإيمان بما يريد أن ينجزه، التجاهل النقدي في بداياته الأدبية لم يستوقفه، ثم وصفه فيما بعد بـ«كاتب البرجوازية الصغيرة»، لم يثن عزيمته، وكانت العشرية الممتدة من 1959 إلى 1969 الفترة الذهبية في إنتاجه، ما يعُدها النقاد «مرحلة ما بعد الواقعية» أو «المرحلة الفلسفية» حسب محمود أمين العالم في «تأملات في عالم نجيب محفوظ»، وتضمنت روايات «أولاد حارتنا»، «اللص والكلاب»، «السمان والخريف»، «الطريق»، «الشحاذ»، «ميرامار»، «ثرثرة فوق النيل»، والتي تلت البداية التاريخية المتبوعة بـ«المرحلة الواقعية» بالغة الثراء بروايات «القاهرة الجديدة»، «خان الخليلي»، «زقاق المدق»، «السراب»، «بداية ونهاية» ثم الثلاثية الخالدة «بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية». وتوالت الأعمال حتى وصل إلى نصه الإنساني الأروع «أصداء السيرة الذاتية» عقب محاولة اغتياله الآثمة على يد متطرف جهول، في العام 1994، واختتم حياته الأدبية بـ«أحلام فترة النقاهة».
نجيب محفوظ، المواطن، يشبه المصريين في تسامحهم وحبهم للحياة وانشغالهم بالموت ما بدا جليا في أعماله، ويُعد من أهم المعبرين عما يعرف بـ«الهوية المصرية» -إن لم يكن الأهم على الإطلاق- بجانب طه حسين وسيد درويش وأم كلثوم ويوسف إدريس، تلك الهوية التي استعصت على الرجعيين بفضل الإرث المهيمن والباقي في وجدان الشعب من تراث حضاري متراكم عبر قرون، عاش نجيب محفوظ، وسيعيش لا لشيء أكثر من أنه كان مصريًا حتى النخاع، مثل الجالسين في مقاهي القاهرة الفاطمية، منطقته الأثيرة، الواقفين في طابور الخبز يكافحون من أجل معاشهم اليومي، مثل أبطاله المنتصرين في تفاصيلهم الصغيرة، والمهزومين في الحياة، والمخدوعين في السُلطة والنُخب المثقفة، حتى الآن لم يوف «محفوظ» حقه، ليس من الدولة التي اعتبرته محض موظف بيروقراطي في دولابها الحكومي، بل من المصريين أنفسهم، والأجيال القادمة باليقين ستعيد اكتشاف نجيبها المحفوظ في أعمق نقطة في القلب، من جديد، «محفوظ» الذي كتب محرضًا إياهم على القيمة الأبقى في وصية باقية أبد الدهر في «أصداء السيرة الذاتية»: «أقرب ما يكون الإنسان إلى ربه وهو يمارس حريته بالحق».
«إن من المهم أن نؤكّد قبل الاستطراد، أن نجيب محفوظ هو كاتب البُرجوازية الصغيرة، وليس المعبّر عن القوى الاجتماعية الجديدة، التي تُكافح لكي تؤكّد وجودها؛ أعني الطبقة العاملة المصرية. ولكننا نظلمه ولا ننصف أنفسنا إذا لم نؤكد كذلك أنه روائي مصري قدير، وفي تعبيره عن هذه الطبقة الاجتماعية ومشاكلها كان صادقًا رائعًا في معظم الأحيان.»- «في الثقافة المصريّة»، عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم، القاهرة، 1955. المزيد
«السينما دخلت حياتي من الخارج، لم أكن أعرف عنها شيئًا، نعم كُنت أحب أن أشاهد سينما، لكن كيف يعد هذا الفيلم؟ لا أدري، كُل ما أعرفه أن هذا الفيلم لرودلف فالنتينو، لماري بيكفورد، لا أعرف أن هناك كاتب سيناريو أو غيره»، هكذا قال نجيب محفوظ، عن بداية رحلته مع السينما، في أحاديثه أواخر الثمانينيات للأديب الراحل، جمال الغيطاني. المزيد
اعتدنا في الأونة الأخيرة مطالعة تصريحات هزلية من السادة أعضاء مجلس النواب، فمرة يهاجم أحدهم النساء، ويصف الرجال المصريين بالضعف الجنسي، وأخرى يخبرنا ممثل للشعب، رئيس إحدى اللجان النيابية، أنه «راجل روحاني»، وأن «العفاريت» مسؤولة عن حوادث الطرق، وغير ذلك من التُّرَّهَاتُ المستفزة التي لا تبرهن على أن السادة النواب منشغلون عن أوجاع المصريين بأحاديث تافهة فقط، بل وتفارق اللياقة والتهذيب في مجتمع مأزوم بهموم الفقر والمشاكل الاقتصادية، وأخيرًا كان تصريح النائب الذي اتهم أدب نجيب محفوظ بأنه «خادش للحياء»!. المزيد