لا يتوقف أهالى رأس غارب، وخاصة المتضررين منهم عن طرح هذا السؤال: «ليه محدش حذرنا قبل السيل؟!». أما الإجابة فجاءت على لسان محافظ البحر الأحمر اللواء أحمد عبدالله، الذى أدلى بتصريحات صحفية، قال فيها إن «سيول رأس غارب كانت مفاجأة».
صحيح أن السيل وفقا للأهالى لم يضرب المدينة منذ 70 عاماً على الأقل، لكن الأكيد، والذى يعرفه محافظ البحر الأحمر وجميع المحافظين الذين تولوا نفس المنصب أن مخراً للسيل يمر داخل المدينة، وتحديداً على امتداد كيلو ونصف متر يبدأ من المنطقة الصناعية، ويمر بأحياء سكنية كثيفة السكان، وينتهى عند ساحل البحر الأحمر.
يقول يوسف الوشاحى، رئيس لجنة الإسكان السابق بمجلس محلى المحافظة حتى عام 1987، إن «ما حدث كان مفاجأة للأهالى لكن لا يجوز أن يكون مفاجأة للحكومة والمحافظ.. كنت بالمجلس المحلى وأعرف أن هناك مخراً للسيل داخل رأس غارب، فكيف لا يعرف المحافظ؟َ!».
يوضح «الوشاحى» أنه عندما كان رئيس لجنة الإسكان بمجلس محلى المحافظة خلال الثمانينات، كان البعض يحاول إقناع المحافظة بالبناء داخل مخر السيل، فهى أرض مستوية ولم يأت أى سيل منذ أكثر من 70 عاماً، لكن مدير عام الإسكان الأسبق كان يحذرنا من الموافقة على بناء أى مدرسة أو منزل داخل مخر السيل. ويضيف: «تعليمات الرجل كانت واضحة وأتذكرها حتى اليوم: السيل قد يأتى ولو بعد 100 عام.. لا تسمحوا ببناء أى منشآت هنا».
تحققت توقعات مدير إدارة الإسكان بمحافظة البحر الأحمر بعد 29 عاماً، جاء السيل فى 2016 مدمراً المدينة الأولى فى مجال التعدين فى مصر، التى يسكنها وفقا للمحافظة حوالى 60 ألف نسمة، وتنتج بفضل سكانها الذين يعمل معظمهم فى شركات التعدين 67% من إنتاح مصر من البترول.
المدينة التعدينية الأولى فى مصر بنتها شركة «شل» البريطانية عام 1932 عندما اكتشفت أول حقول البترول، واختارت الشركة بناء مساكن مهندسيها وعمالها فى المناطق المرتفعة بالمدينة لتجنب مخاطر السيول، وهى مبان مازالت قائمة حتى اليوم. تطورت المدينة مع تطور حقول البترول والغاز من حولها، وبدلا من شركة واحدة أصبحت هناك 35 شركة فى رأس غارب ورأس شقير، فازدهرت المدينة، واجتذبت مزيداً من السكان.
مع زيادة عدد سكان رأس غارب، بات الاحتياج إلى بناء المزيد من المنازل وزيادة الخدمات المقدمة للمدينة أمراً ضرورياً، ووفقا للموقع الرسمى لمحافظة البحر الأحمر، فإن جميع خدمات المدينة من كهرباء ومياه ومواصلات كانت مقدمة من قطاع البترول، وتحديداً الشركة العامة للبترول التى اعتبرت أن رأس غارب، التى يعيش فيها معظم عمالها امتداد طبيعى لها.
وفرت الشركة للسكان بناء منازل جديدة، والكهرباء والماء والمواصلات، وحتى بناء الملاعب، وتوفير المعلمين فى المدارس، ورغم ذلك لم تفكر يوماً فى البناء داخل مخر السيل، واستمر هذا الوضع حتى عام 1985. يقول يوسف الوشاحى: «كنت طالباً وقتها فى مدرسة رأس غارب، وكنا بفضل مجهودات الشركة العامة نمارس كل الرياضات.. كان عندنا ملاعب إسكواش وهوكى.. غارب كانت مدينة نموذجية».
إذن ماذا حدث للمدينة النموذجية التى بناها البريطانيون، وطورتها الشركة العامة للبترول؟ كيف تحولت فجأة إلى مدينة تتسم بالبناء العشوائى التى انتشر حتى داخل مخرات السيول، فانهارت خلال ساعات أمام سيل لم يتوقعه حتى أكبر مسؤول تنفيذى فى المحافظة اللواء أحمد عبدالله.|
فى عام 1965 دخل عنصر جديد إلى الحياة العامة فى مدينة رأس غارب، إنه الحكم المحلى، حيث أصبح لرأس غارب مجلس مدينة ومسؤولون تنفيذيون تابعون للحكومة لأول مرة منذ نشأتها. رغم ذلك ظلت المدينة تعتمد كلياً على الشركة العامة للبترول، وظل الحكم المحلى فيها شكلياً يمتلك سلطات بلا إمكانيات على الأرض. يقول يوسف الوشاحى، رئيس لجنة الإسكان الأسبق بالمجلس المحلى: «ظلت المدينة تحت سلطة الحكم المحلى لكن كل الخدمات تقدمها الشركة العامة للبترول حتى عام 1985 عندما وقع أول صدام بين الحكم المحلى وشركة البترول».
يوضح «الوشاحى» أنه بتولى محافظ البحر الأحمر الأسبق الفريق يوسف عفيفى مقاليد الأمور، بدأ الصدام حيث أصر على ممارسة سلطاته على المدينة، وإدارتها بشكل فعلى، وهنا بدأت الشركة العامة للبترول فى وقف الخدمات التى كانت تقدمها تدريجياً.
نجح عفيفى فى فرض سيطرة الحكم المحلى على المدينة، وبات على سكان رأس غارب أن يطلبوا كل احتياجاتهم من محافظة البحر الأحمر بدلا من الشركة العامة للبترول. لكن واكب ذلك تزايد اهتمام الدولة بمجال السياحة، مع انتهاء الحرب وإبرام اتفاقية السلام مع إسرائيل. هنا ظهرت مدينة الغردقة باعتبارها قبلة سياحية جديدة وحظيت باهتمام الحكومة وجميع محافظى البحر الأحمر، فيما تراجع الاهتمام برأس غارب المدينة التعدينية الأولى فى مصر. يقول ناصر على: «لا صوت يعلو فى البحر الأحمر فوق صوت السياحة.. المحافظون ينفقون مخصصات المحافظة على الغردقة بينما رأس غارب التى تنتج 67% من بترول مصر لا يهتم بها أحد».
فوجئ أهالى رأس غارب بأسلوب الحكم المحلى والبيروقراطية التى لم يعتادوا عليها مع الشركة العامة للبترول، هذه البيروقراطية حملت معها الكثير من التراخى الإدارى وسياسات غض الطرف عن المخالفات. يقول يوسف الوشاحى: «لم تشهد رأس غارب البناء العشوائى فى مخرات السيول إلا مع خضوع المدينة للحكم المحلى»، ويضيف: «الحكم المحلى غض الطرف عن مخالفات البناء فى مخرات السيول، ثم أدخل الكهرباء والماء والغاز الطبيعى للمخالفين حتى وقعت كارثة 2016».
يقول الوشاحى إن فساد المحليات عبر سنوات ساهم فى الانهيار السريع للمدينة أمام السيول، وكشف قدر الإهمال الذى تعانيه المدينة منذ سنوات. ويضيف: «لم ينفذ مجلس المدينة أى إزالة منذ سنوات ضد المنازل المقامة عشوائياً داخل مخرات السيول، ولم يحذر أحداً بخطورة البناء هناك».