تنتابنى حالة من الإحباط على مدار اليوم، أحاول فى كل لحظة أن أخرج منها وأن أطبق كل ما قرأته وتابعته واستمعت إليه حول التفكير الإيجابى، وأن البعد عن المؤثرات والأشخاص السلبيين يغير مسار واتجاه يومك وتفكيرك، إلا أن الأمر صعب للغاية، فبكل النوايا الحسنة- ومهما وفرت لنفسى من طقوس تسهل مبتغاى، ورغم الإصرار والرغبة فى اقتناص لحظات راحة البال والطمأنينة والهدوء- فإننى أجدنى عاجزة عن اقتناص مثل هذه الفرص.
لا أُخفيكم سرا أن الفرح أصبح صعب المنال والمبتغى. كيف لى أن أفرح وحولى مئات المُنَغِّصات والمشاهد التى تستفزنى لأنخرط فى عيش تفاصيلها، سواء بيدى أو لسانى أو قلبى، وذلك أضعف الإيمان؟! أعلم أنى لست وحدى مَن تعانى، «الحال من بعضه». الجوارح مجروحة، كئيبة وعدائية. لم يبق لنا من إرث غفلة وتسامح الأجداد شىء نصرفه على أيامنا. لا أستطيع لوم مواطن يعيش الغبن فى حياته نتيجة فقره وتهميشه وقلة حيلته، حين يرمقنى بحقد وكراهية. كم من مرة انتابتنى رغبة ملحة فى أن أهمس فى أذنيه، لست أنا يا أخى مَن سرق خبزك وقوت يومك، لست أنا مَن رسم لك مسار حياتك القاتمة، أنا واحدة من قبيلتك وعشيرتك. أعيش معك فى حضن وطن لا يسعنا جميعا. حضن بارد جاف غليظ القلب، حتى أصابتنا عدوى تبلد العواطف وغلبة المصلحة. تسابق وتحايل ونفاق..
اشتهيت لحظة من لحظات صفاء أمس قريب، كانت السعادة عبارة عن كسرة خبز طازج معجون بماء الحب ومخبوز فى فرن مشترك، قد يكون من صنع أمك أو الجارة التى تحل محلها إن غابت، قد ينهرك سابع جيرانكم إن أخطأت التصرف ولم تُبْدِ من حسن السلوك ما يُشرف والديك.
تقاسمنا فيما مضى بساطة العيش وقلة الموارد. واختلفنا اليوم حول مَن له أحقية فى الوطن. لم نستطع اقتسام الطريق بين السيارات والسيارات ولا بين السيارات والراجلين ولا بين الراجلين ومحتلى الأرصفة. مَن المسؤول عن السلوك العدائى الذى أصبح يطبع أجواءنا وشوارعنا؟ مَن المسؤول عن قلة التربية؟ مَن أقنع الآباء والأمهات بأن النجاح فى الحياة هو أن يعلموا أبناءهم أن يفكروا فقط فى «المصلحة». و«المصلحة» تعنى التحايل على الآخر، تعنى عدم الانضباط لقوانين تنظم الحياة العامة، وتعنى أيضا الغش فى العمل والنوايا. حتى سياسيونا انتهجوا نفس الطريق والمنوال، وبدل تخليق الحياة العامة عملوا على تسفيهها.
الغريب فى الأمر أنك لو سألت أى فرد فى مجتمعنا العجيب- حتى ولو كان مستواه الفكرى والتعليمى على «قد الحال»- عما يميز البلدان المتقدمة؟ سيجيب دون تردد ولا تفكير: احترام الحقوق والقوانين. ولو أُتيحت له فرصة الهجرة لن يتردد فى ذلك، ومبرره ما تتوفر عليه هذه البلدان من حرية واحترام ونظافة. فلِمَ يا عزيزى تريد أن تبحث عن الحرية والاحترام والنظافة هناك؟ لم لا تحاول تعلم أبجديات السلوك والمعاملة هنا؟ لم لا تُنزل عن كاهلك أثقال الضغينة والغل غير المبرر تجاه الآخر؟
هذه حصيلة مدرسة زاحت عن مخططها، ودين لم يبق منه سوى التحريض والتكفير والوعيد، وسياسة تكرس للجهل والتهميش.
لقد فقدنا فن العيش والتعايش، فقدنا مكونات الإنسان التى تفرقه عن البهيمة، وحتى لا نظلم البهيمة، لم نرها يوما تعتدى على إخوانها بدون سبب أو عذر، لا تكرهك لمجرد ما يوحيه مظهرك وهندامك، فهى تحترم الاختلاف والخصوصية.
ألم نردد دائما أن «الدين المعاملة»، و«أحب لأخيك ما تحب لنفسك»، و«إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا»؟.. لقد ذهبنا على ما يبدو، ولا أدرى متى سنعود عن هذا الغى وقلة الذوق والعفة.