فى الوقت الذى كانت فيه أعين الجميع متجهة إلى ميدان التحرير يوم الجمعة الماضى، خوفاً على ميدان الثورة من «جمعة الدم» كان الرعب يسيطر على سيناء، بسبب اعتداء مجهولين يرفعون رايات سوداء لأول مرة تطالب بسيناء إمارة إسلامية.
كان المشهد مرعباً.. بقايا آثار الدماء هنا وهناك، فتحات دخول الطلقات على الحوائط ترسم خريطة معركة حربية مشتعلة دارت فى ذلك المكان، نظرات الخوف والرعب فى أعين الأهالى، وشهود عيان صامتون لا ينطقون خوفاً من قوة مجهولة، يمكنها أن تصفيهم جسدياً فى لحظات.
كانت تلك الصورة الأولى التى لاحظناها أمام قسم ثان العريش، الذى شهد واحدة من أكثر المعارك عنفاً وشراسة ليلة الجمعة، استمرت 9 ساعات كاملة، استخدمت خلالها ــ حسب المصادر الأمنية ــ ما يزيد على 15 ألف طلقة تم تجميع 10 آلاف 1مظروف فارغ من أمام الواجهة الأمامية للقسم، فضلاً عن عدة آلاف أخرى جُمعت من خلف القسم الذى هاجمه مسلحون ملثمون يرتدون ملابس سوداء ويحملون رايات سوداء، كتب عليها «لا إله إلا الله» و«سيناء إمارة إسلامية» وفرضوا عليه حصاراً من الخامسة عصر الجمعة حتى الثانية صباح السبت فى محاولة لاقتحامه، لكن بسالة رجال الشرطة ودفاعهم المستميت عن القسم حالا دون سيطرة المسلحين عليه.
لم تبدأ أحداث الجمعة المشتعلة بعد الصلاة كما يظن الكثيرون، لكنها بدأت فعلياً قبلها بيومين، تحديداً يوم الأربعاء عندما اجتمعت مجموعات من السلفية فى سيناء بمدينة الشيخ زويد لوضع خطة الجمعة الإسلامية وترتيبات المشاركة، وحسب المصادر الإسلامية فإن أحداً لم يكن يتوقع أو يخطط لأى هجوم، وكان الهدف مشاركة إسلامية سلمية، وهذا ما حدث فى بداية الأمر، إلا أن مصدراً آخر بمدينة العريش، قال إنه كانت هناك معلومات قبل يوم أو أكثر أمام بعض الجهات المعنية بانتظار حدث جلل يوم الجمعة.
الحقيقة هنا لها أكثر من رواية وأكثر من وجه، ففى الوقت الذى يحمّل فيه الجميع المسؤولية للسلفيين والجماعات التكفيرية عما حدث، فإن السلفيين ينفون ويؤكدون أنهم لم يشاركوا فى الأحداث، فيما وقع الإخوان بياناً نفوا فيه مشاركتهم فى الأحداث، ليبقى عدد من القوى السياسية ترى أن الجماعات التكفيرية فى سيناء وراء ما حدث.
فى البداية، بحسب المصادر، وقعت بعض المشادات بين الإسلاميين والسلفيين من جهة وبين المشاركين فى التظاهرة من القوى السياسية المختلفة، الذين اعترضوا على الشعارات الإسلامية من جهة أخرى، وقتها ردد بعض السلفيين عبارات تؤكد أن المد الإسلامى قادم من رفح، وتشير خريطة الجماعات الدينية فى سيناء إلى انتشار التيارين السلفى الجهادى والتكفيرى بشكل كبير فى مدينتى رفح والشيخ زويد.
عند الساعة الثانية تقريباً، كانت أعداد المشاركين وصلت إلى نحو 500 مشارك، كلهم من السلفيين والإسلاميين، كان المتظاهرون أنهوا للتو مسيرة صغيرة طافت أرجاء ميدان الرفاعى والشوارع المحيطة به عندما انطلقت ثلاث طلقات من مدفع آلى، وقتها وصلت للميدان قوة صغيرة من الجيش لتفقد الحالة الأمنية وطلبت عدم استخدام السلاح مطلقاً.
عند الثانية والنصف تقريباً دخلت الشوارع الجانبية المحيطة بالميدان 5 سيارات دفع رباعى بصحبة أكثر من 15 موتوسيكلاً تحمل مسلحين ملثمين يرتدى بعضهم ملابس سوداء، يحملون رايات سوداء، كتب عليها «لا إله إلا الله»، وبدأوا إطلاق النيران العشوائى فى كل مكان، وظهرت سيارات أخرى بيضاء دون لوحات معدنية مكتوب عليها «نعم.. سيناء إمارة إسلامية»، وفى غضون نصف ساعة تقريباً احتل المسلحون ميدان الرفاعى، وبدأوا إطلاق النيران العشوائى مع إطلاق هتافات إسلامية، ورُفعت لافتات تطالب بالإفراج عن أسامة النخلاوى ومحمد جايز ويونس السواركة ومحمد رباع، وهم المتهمون فى تفجيرات طابا من أعضاء تنظيم التوحيد والجهاد، الذى سبق أن دخل فى مواجهات ضخمة مع الشرطة فى سيناء.
فى الوقت نفسه، كان هناك ملثمون آخرون يتجهون إلى منزل محافظ شمال سيناء ويطلقون النيران أمامه بقوة، ولم يكن اللواء عبدالوهاب مبروك، المحافظ، فى منزله ولم يكن بالبيت أحد، كان المحافظ وأسرته غادروا العريش إلى القاهرة منذ ساعات قليلة، بحسب المصادر.
عند الرابعة وصلت دفعة جديدة من الإمدادات من رفح، هى ملثمون آخرون بأسلحة أحدث اقتحموا شاطئ البحر وأطلقوا نيراناً مكثفة فى الهواء، فى اللحظة نفسها وفى ميدان الرفاعى، كان المحافظ بدأ فى التفاوض مع الملثمين لمعرفة مطالبهم عبر الهاتف، وتلخصت فى إسقاط الأحكام الجنائية ومطالب أخرى، وعندما وافق على معظم المطالب مقابل إخلاء الميدان، رفض الملثمون الانسحاب واحتلوا أسطح المنازل وأطلقوا النيران على تمثال السادات الموجود بالميدان لهدمه وأحضروا لودر كبيراً لإسقاط التمثال.
وعند الساعة الخامسة تقريباً، كانت 4 سيارات جيب دون لوحات وعشرات الموتوسيكلات تطلق النار بالقرب من قسم ثان العريش، وكان من عليها يحملون الرايات السوداء نفسها، وجميعهم ملثمون. بلغت أعدادهم حوالى 25 مسلحاً ــ حسب أحد شهود العيان ــ ثم اصطفوا فى صف، كان به حوالى 14 مسلحاً والباقى انتشروا للتأمين، ووقف أمامهم قائد يلقنهم التعليمات، ثم تحركوا فى تشكيلات من 3 أفراد وانتشروا فى المكان وحاصروا مقر قسم ثان العريش.
المجموعة المسلحة التى تولت مهمة الهجوم على قسم ثان كانت الأكثر تدريباً وتنظيماً ضمن كل المهاجمين على العريش، يوم الجمعة الماضى، والتى تقدرهم مصادر بـ75 فرداً، وآخرون، يؤكدون أنهم كانوا فى حدود 50 مسلحاً.
أمام قسم ثان بدأت معركة وصفها الأهالى بأنها أعنف ما شاهدوه استمرت من الخامسة إلى الثانية صباحاً، وكانت المجموعة التى تحاصر وتهاجم مبنى القسم تحمل أسلحة أكثر حداثة من تلك الأسلحة التى كان يحملها المسلحون فى ميدان الرفاعى، وتضمن التشكيل أمام القسم اثنين من القناصة يحملان أسلحة متطورة جداً مزودة بكاتم صوت.
بعد مرور ساعة تقريباً على الهجوم، بدأ المسلحون يلتفون حول القسم لمحاصرته وضربه من الخلف، وقتها كان الجندى الذى يجلس على مدفع الجرانوف أعلى مبنى القسم قد أصيب وأصبح مدفع تأمين القسم من أى اقتحام لا يعمل، ساعتها صعد اللواء سميح أحمد بشادى، وهو منتدب فى مديرية أمن شمال سيناء، وجاء مسرعاً للدفاع عن القسم، وجلس بنفسه على المدفع ليصد هجوم المسلحين فى معركة استمرت أكثر من 9 ساعات. اللواء سميح اعتذر عن عدم التحدث إلينا واعتبر أن ما قام به جزء من واجبه، وتمت ترقيته إلى منصب حكمدار شمال سيناء بعد دفاعه المستميت عن القسم.
بعد ساعتين تقريباً من بدء الهجوم وصلت إمدادات الذخائر إلى المسلحين، بواسطة سيارات نصف نقل حديثة دخلت مسرعة إلى منطقة خلف فندق النصر الملاصق للمبنى وهى منطقة مليئة بالأشجار، كانت السيارات تحمل صناديق من الذخائر، وكان هناك شباب يتولون مهمة توصيل الذخائر إلى المقاتلين المسلحين.
عند الساعة العاشرة مساء كانت هناك إصابات بين 3 من المهاجمين اتخذوا على إثرها قراراً بالانسحاب من المكان، ودخلت مجموعة أخرى أقل تدريباً وحرفية لتواصل محاولتها اقتحام القسم حتى الثانية من فجر اليوم التالى، ورغم إعلان وزارة الداخلية عن القبض على 15 من المشتبه بهم، فإن أحداً لم يستطع الجزم بهوية منفذى الهجوم على العريش، وشهود العيان من سكان المنطقة المحيطة بالقسم أكدوا أن عدداً من المهاجمين ومن قام بمساعدتهم وإمدادهم بالذخائر، من أبناء المنطقة ومعروفون لديهم، والبعض الآخر قدموا من رفح والشيخ زويد، وكل المؤشرات ـ بحسب بعض المصادر ـ تؤكد أن منفذى الهجوم ينتمون للتيارات التكفيرية وهم منتشرون بصورة كبيرة فى رفح والشيخ زويد.
وفى الوقت الذى اتهمت فيه قوى سياسية سلفيين من الشيخ زويد بتدبير الهجوم على العريش، إلا أن الشيخ أبوأيوب، أحد قيادات التيار السلفى فى رفح نفى تماماً مشاركة السلفيين فى الاعتداء على العريش.
وبينما تجرى التحقيقات للتوصل إلى هوية الجناة، قالت مصادر سلفية أخرى إن مهربى المخدرات وتجار البشر عملوا على تلفيق تلك الاتهامات للسلفيين.