ديناصورٌ وحيدٌ في شرنقةٍ هشة

جمال الجمل الأربعاء 24-08-2016 21:26

(1)

برغم كل الأهوال، التي ألفناها بعد ذلك باعتبارها «الحياة»..!

وبرغم صدمة الضياع الكبير، والسقوط المتوالي..!

وبرغم تحول الأرض إلى خرقة مهترئة، غارقة في وحلٍ بغيض الرائحة..!

وبرغم تصاعد الغبار بوقاحة في عين السماء..!

وبرغم تفشي الخوف، والشرود، والغربة، ومستنقعات القار، والجماجم العالقة في أشلاء متحركة، وحطام الأحلام المشوهة، وشظايا النهارات المتكسرة..!

وبرغم تفحم الأشجار.. جُل الأشجار..!

بقت على الأرض سنديانة متفردة

ونجا من المهالك ديناصور عجوز.

(قطع)

«أقف أمام هذا الجبل عاجزاً / يملؤني صمته بالغضب/ وأنا لي نصيب فيه».

(2)

يقول أهل الحكايات إن الديناصور الناجي اختبأ من الانقراض داخل شرنقة هشةً.. رقيقة إلى حد الشفافية، لكنها كانت أعجوبة في إحكام نسيجها، وفي قدرتها على الحماية والعزل، وفي مواجهة تبدلات الأزمان والأحوال عاش الديناصور في شرنقته، مشغولاً بتفاصيل أخرى.. بحياة موازية، حتى أنه لم يجد وقتا ليفكر في موعدٍ للخروج، فقط ظل يكتب سطوراً من الدهشة عن عذابات عملاق وحيد لم يقتله الموت الجبار، لكن قتلته الحياة الفاسدة!.

(قطع)

«يا من تذهب / سوف تعود

يامن تنام / سوف تنهض

يامن تمضى / سوف تُبعَث

فالمجد لك.. للسماء وشموخها / للبحار وعمقها».

(3)

تقول المدونات إن الديناصور الحزين كان يهوى «لعبة الأقنعة» فيتقمص وجوهاً متغيرة، ويتخذ أسماءً عدة: ونيس بن سالم سيد قبيلة الحرابات، عبدالخالق المسيري، منير فكار، أمين الألفي، منسي، فتحي، فهمي، علاء.. علاء حب الله.. علاء حب الله الديب.. علاء الديب

(قطع)

«إنهض/ فلن تفنى / لقد نوديت بإسمك / لقد بعثت.»

(4)

يقف الديناصور على الحافة.. قبل المنحدر، ويحدث نفسه:

لا شيء هنا أملكه.. لا شيء هنا له تاريخ، الآن أستطيع أن أكتب مذكراتي.. انتظر الفجر، وأنا أعرف أن الفجر لا يجيء / يحيطني ترابٌ، وكذبٌ، وعطرٌ رديء/ علينا أن نبكي من أجل كل شيء، ولكن/ ليكن بكاؤنا جيداً.

نحن لم نعد حيوانات، لكننا (بالتأكيد) لم نصبح بشراً بعد.

(قطع)

«هل هذا عيشنا؟!»

(5)

كالآخرين كان الديناصور يحكي عن فعلٍ اسمه «المؤامرة، لكنه لم يكن يحكي كالآخرين، لم يكن يعتبر المؤامرة عدواً يتربصه من الخارج، وفي المدونات التي سجلها في سطور من الدهشة والألم كتب معترفاً بكل صراحة وسذاجة: هناك نوعان من المؤامرة، نوع جنائي تختص به النيابة عن قضية بعينها، ونوع نشترك فيه جميعا، وأقصد المؤامرة التي يقدم عليها كل الرجال.. لكي يصعدوا، أو يصلوا.. المؤامرة التي نحكيها جميعاً كل صباح، ونحن نتناول الافطار، والشاي باللبن، المؤامراة السرية العادية التي نواجه بها الرؤساء في العمل، والزوجات في الفراش.. التي نواجه بها الأصدقاء وهم يسقطون في الطريق، الزملاء ونحن ندوس على أعناقهم في سبيلنا إلى مزيد ومزيد من النجاح، أو مزيد ومزيد من النقود.. من الجحيم أو الوهم الفارغ!... أعترف أنني كنت طرفاً في هذه المؤامرة.. لقد فُرِضَت عليِّ، وجدت نفسي منساقا إليها، ولا أستطيع (بالضبط) تحديد وقت تورطي فيها، لكنني كنت أشعر أنها تصبح شيئا فشيئا لُحمة الحياة وسُداها، أخذت خيوطها ولحظاتها، مخاوفها وتحقيقاتها الكريهة تلفني وكأنها»شرنقة«، منذ أن كف العمل عن أن يصبح – بالنسبة لي – عطاء حقيقيا منذ أن كف الوجود، عن أن يصبح (بالنسبة لي) عطاء حقيقيا منذ أن كف الوجود، عن أن يكون (بالنسبة لى) فرحاً ونعمة.

(قطع)

«* ما بك؟

- لاشيء، ولكن الاختباء مذلة«

(6)

مثل كائنات المورتال التي ملت الخلود، كان الديناصور المُعَذَب بعزلته (المحتمي بها أيضا) يئن وحيداً، ولا يُسْمِع أنينه إلا لماضٍ قديم يختزنه تحت جلده:

كل شيء يحدث في داخلي، أما وجهي فيظل كما هو.. لا أحد يستطيع أن يلاحظ كم أنا وحيدٌ ومعزولٌ ومُبْعَدْ.. عملاقٌ بليدٌ مسلوب الإرادة، آه.. لا تسألوني جواباً/ أنا لم أكن شاهدا أبداً/ إنني قاتلٌ أو مقتول/ مت عشرين موتة/ وأهلكت عشرين عمراً/ وآخيت روح الفصول.

هل علينا دائما أن نحمل هذا السواد والعذاب والألم، حتى هنا؟.

(قطع)

«لك الخشوع يا رب الضياء، أنت يا من تسكن في قلب البيت الكبير، يا أمير الليل والظلام، جئت لك روحا طاهرة، فهب لي فما أتكلم به عندك، وأسرع لي بقلبي يوم أن تتثاقل السحب ويتكاثف الظلام، أعطني اسمي في البيت الكبير، وأعد إلى الذاكرة اسمي، يوم أن تحصى السنين». [تعويذة من «كتاب الموتى»]

..................................................................................................................

@ اعترافات الديناصور من كتابه «وقفة قبل المنحدر»، أما القواطع فمن إبداعه الموازي في ترجمة حوار فيلم «المومياء».

tamahi@hotmail.com