المهنة.. عاملة تراحيل

كتب: علي شعبان السطوحي الثلاثاء 14-12-2010 19:27


فى ساعات الصباح الأولى تجدهم يقفون بالعشرات أمام مدخل القرية، بانتظار سيارات «نصف نقل» تنقلهم للمزارع والأراضى التى تبعدهم عشرات الكيلومترات، يحملون فى أيديهم الأكياس البلاستيكية التى ملئت بملابس العمل والخبز والطعمية، فهذه هى المهنة التى اعتادوا أن يذهبوا إليها صباح كل يوم، بعدما اضطرتهم ظروفهم الاجتماعية للاستسلام لهذه المهنة الشاقة.. يحلمون بلحظة يلبسون فيها الفستان الأبيض، ليخلصهم من الشقاء الذى صبروا عليه لسنوات.


فى كابينة السيارة يجلس السائق «مصطفى» وإلى جواره يجلس «مقاول الأنفار»، يعلو صوت أغانى إذاعة الشباب والرياضة، «مصطفى» ذو بشرة سوداء وجسد سمين، يغلق النوافذ الزجاجية لسيارته اتقاء للبرودة، وعن يمينه يحكم السيطرة على رغيف خبز بداخله قرص من الطعمية، وتتولى يساره التحكم فى إطار القيادة، يحفظ الطريق عن ظهر قلب، حيث اعتاد على الخروج فى مثل هذا التوقيت منذ عشرين عاما مضت لنقل العمال فجرا، ونهارا ينقل المحاصيل والفاكهة، ليعود آخر اليوم بالعمال من حيث أخذهم، لا يغيب عن باله سيارته التى أصابها حادث سير قبل أسبوع: «سواق كان نايم خبط العربية من ورا، وبعد ما تنازلت عن المحضر، رجع فى كلامه ومش عايز يصلح العربية.. عايز يدفع 10 آلاف جنيه، وتصليح العربية هياخد أكتر من كده».


فى صندوق السيارة الخلفى لا يعلو سوى صوت محرك السيارة وتيارات الهواء الباردة التى تلفح وجوه عشرات العمال من مختلف الفئات «شباب، بنات، شيوخ، أطفال»، قد تجمعوا فى الصندوق الذى خصص لنقل البضائع والحيوانات وليس للاستخدام الآدمى، تراهم صامتين، البعض اختبأ فى ثيابه وغطى وجهه بما لديه من ملابس، وأصبح لا يكشف من وجهه سوى العينين، وآخرون التصقت أيديهم المطبوقة على أفواههم، ينفخون بقوة فى أيديهم علها توفر لهم سخونة تحميهم من البرودة التى اعتصرت أجسادهم.


يوميا تركب الحاجة «فكاهة»، وبصحبتها «رشا» و«ابتسام» هذه السيارة، وفى مثل هذ التوقيت، حيث يخلو الطريق إلا من سيارات نقل عمال التراحيل، يرتد قلب «فكاهة» خوفا، عندما تنظر إلى يمينها حيث «ترعة النوبارية» التى حصدت قبل عامين أرواح ثمانية من عمال بلدتها، سبعة منهم كانوا من الفتيات الصغار اللاتى لم يتجاوزن العشرين من العمر.


الحاجة «فكاهة منور»، لها أخ أكبر واثنتان من البنات، وتعيش وحدها مع والدتها بعدما فاتها قطار الزواج وقاربت على الخمسين عاما، تذهب هذه الأيام برفقة «رشا» و«ابتسام» لزرع عيدان البصل وسط أشجار اليوسفى فى مقابل 30 جنيهاً، وتتذكر بداية عملها فى هذه المهنة: «بدأت العمل فى المهنة دى، وأنا عندى 15 سنة، لأن ماعيش شهادة، أهالينا كانوا فقراء زمان، والصبيان هما اللى راحوا مدارس، أما الحريم لا»، وتضحك عندما تذكر أول ما حصلت عليه من نقود فى هذا المهنة: «10 قروش، وطبعا إديتها لوالدى ووالدتى عشان يصرفوا منها على البيت».


عدم الاستقرار التى تتسم به هذه المهنة جعلها تفكر جديا فى الذهاب لفصول محو الأمية لتتمكن من العمل فى وظيفة حكومية ثابتة: «لو تعبت يومين فى البيت ماحدش هيدفع لى يومية، لكن الموظف لو مرض بياخد مرتبه آخر الشهر، ماينفعش نعمل لصحاب الأرض إجازة مرضى، عشان كده قررت أتعلم القراءة والكتابة فى فصول محو الأمية عشان آخد الشهادة الإعدادية».


لكن حلم الاستقرار تبدد مع السنة الثانية، لتدرك «فكاهة» أن العمل فى الأراضى ومزارع الفاكهة أصبح قدرها الذى لن يفارقها إلا وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة: «فى السنة الأولانية كنت قابلة للعلام وباكل الكتب أكل، لكن تانى سنة، المدرسة سدت نفسى، وماكنتش بتعلمنا حاجة، كان نفسى أتعلم عشان أشتغل «فراشة» بالشهادة، أهى كانت هتساعدنى لما أكبر فى السن». دون أغنيات كما اعتادت الأفلام العربية أن تصور عاملات التراحيل تمارس، «رشا» عملها، تقف من أنحائها ممسكة بيديها عيدان البصل، وتقول: «أهى شغلانة»، «رشا» فتاة تبلغ من العمر عشرين عاماً، وتسببت وفاة والدها فى خروجها من المدرسة فى الصف الخامس الابتدائى، وتضيف: «لما ولدى اتوفى، طلعت من المدرسة عشان أساعد أمى فى مصاريف البيت، ومن ساعتها وأنا فى الشغلانة دى، إحساس حلو لما أطلع الشغل وأجيب يومية، عشان كده مش ندمانة إنى سيبت المدرسة، وبعدين أخويا معاه كلية تربية وشغال فلاح فى الأرض وبيطلع معايا باليومية».


«ابتسام الجيزاوى» التى التزمت الصمت، ولم تشارك فى أى حوار، تمشى فى عامها العشرين، ولها ثلاثة من الإخوة واثنين من الأخوات، خرجت عن المألوف ورفضت محاولات أهلها لإلباسها المريلة الكحلى والشنطة، وقررت الخروج كعادة البنات فى قريتها للعمل باليومية فى الأراضى: «مادخلتش مدرسة لإنى ماكنتش بحب المدرسة، واشتغلت الشغلانة دى وأنا عندى 15 سنة، عشان أجهز نفسى وأجيب اللى أنا عايزاه، وفى جزء من الفلوس بيروح للبيت عشان إحنا ناس على قدنا».


«الزواج» حلم لا يفارق عقل «رشا» و«ابتسام»، فهو الشىء الوحيد القادر على جعلهن يتركن هذه المهنة الشاقة، تقول «رشا»: «نفسى أتجوز بقه عشان أستريح من التعب ده، وأشتغل فى أرض جوزى»، وتضيف «ابتسام»: «نفسى أتجوز، كرهت الشغل خلاص، كل يوم اللى بنبات فيه بنصحى فيه»، أما «فكاهة» ففقدت الأمل فى الزواج: «ماتجوزتش، كل حاجة بإرادة الله».


«نهلة عبدالواحد» و«عبير حامد»، تعيش الأولى فى أسرة تكونت من الأب والأم وثلاثة من الأولاد ومثلهم من البنات، وتعيش الثانية إلى جوار والديها وثلاثة من أخواتها البنات، اعتدن منذ سنوات الخروج يوميا عند السابعة صباحا إلى مزرعة لأشجار اليوسفى والبرتقال والجوافة والليمون، إما لجمع المحصول أو لتنظيف المزرعة من الحشائش فى مقابل 25 جنيهاً فى نهاية اليوم، يلبسان نفس اللبس، «فستان أحمر طويل»، وفى أرجلهما يلبسن شراباً وعليه شبشب لتحميا أرجلهما من أشواك ورطوبة الأرض، وعلى وجههما قماش أبيض اللون، بالإضافة لطاقية تقيهن الحر وأشعة الشمس.


تعمل الاثنتان فى المزرعة وحدهما، وتشتركان فى أنهما حرما من استكمال التعليم ليس لتأخرهما الدراسى، ولكن لسوء معاملة المدرسة وناظر المدرسة لهما، حيث خرجت «نهلة» التى تمشى فى عامها الثامن عشر، من الصف الخامس الابتدائى: «سقطت فى رابعة وعديت السنة ونجحت ودخلت خامسة وماروحتش تانى»، وتضيف: «كان نفسى أكمل، لكن الله يسامحها مدرسة التاريخ كرهتنى فى المدرسة، لإن عودى كان طويل ودايما كانت تحرجنى قدام زمايلى وتقولى يا أم طويلة»، أما «عبير» بنت السابعة عشرة عاما، فتحكى ضاحكة عن خروجها من المدرسة: «أنا شهادتى أخدتها من الحاج أبو نابوت، صاحب المزرعة دى، نجحت فى خامسة ابتدائى لكن كرهت المدرسة وخرجت من أول إعدادى، لأن مدير المدرسة كان بيضرب زمايلى ويشتمهم، ومارضتش أكمل عشان ماحبش حد يشتمنى أو يضربنى».


لا هم لـ«نهلة» و«عبير» من العمل فى المزارع سوى تجهيز نفسيهما استعدادا للحظة التى تنتظرانها بشغف لزوجين يريحانهما من هذا العمل الشاق، الذى لا يناسبهن كفتيات، وتقول «نهلة»: «لما أتجوز مش هطلع الشغل ده، الواحدة بتتجوز عشان تستريح، ودلوقتى بدفع كل شهر قسط للجهاز بتاعى»، فى حين تؤكد «عبير» أنها لن تترك هذه المهنة إلا بالزواج: «أبويا على طول بيضغط على عشان أقعد من الشغل، لكن قعدة البيت لوحدى تزهق، ومنتظرة أتجوز اللى أحبه مش أى حد يتقدم لى».


لا يعرفن شيئا عن السياسة، فلم تشارك «نهلة» فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة: «أتكسف أروح الانتخابات»، أما «عبير» فقالت: «مليش صوت فى الانتخابات»، وتختزل كذلك فى ذاكرتها رسالة للرئيس مبارك طالما حلمت بأن تقابله لتقولها له: «3 من خالاتى متجوزين فى فلسطين، والرئيس مبارك جدع، بيبعت أكل وشرب لفلسطين، لكن بتبقى غالية شوية، جركن الجاز الصغير بـ40 جنيه والكبير 100، وهما أصلا مش لاقيين لا غاز ولا أكل ولا شرب».


جميعهن لا يعرف اسم رئيس الوزراء الحالى، فلا يعرفن سوى رئيس واحد، هو صاحب المزرعة اللائى يعملن فيها، فهو الرئيس الوحيد الذى يحنو عليهن ويقوم هو وزوجته على خدمتهن من مأكل ومشرب، هو الرئيس الوحيد الذى يرتدى نفس ملابسهم المهلهلة ويأكل مما يأكلون، يساعدهن فى الزراعة وجمع الفاكهة، ويتحدث إليهم دون تكلف أو وسيط، ويكفى أنه الرئيس الوحيد الذى يدفع لهم آخر كل يوم ثمنا ومقابلا يرتضونه لخدمتهم وشقائهم.