«اليوم توقفت المطابع، وجف الحبر، وقريبا لن يصدر الورق حفيفا».. كتبتها صحيفة «إندبندنت» البريطانية فى افتتاحيتها لآخر طبعة لها فى 26 مارس الماضى، تزامنا مع أزمات تضرب الصحف حول العالم وسط اتجاه متزايد نحو الصحافة الرقمية التى لم تجد بعد مصادر تمويل ثابتة ومضمونة تغطى احتياجاتها، وتحرقها أزمة الإعلانات، بينما تشهد الهند حالة من الازدهار والنمو المُستمر للصحف المطبوعة، من حيث التوزيع والشعبية.
تراجع توزيع الصحف فى الغرب، وعلى ذات وتيرتها الحال فى مصر، حيث يبلغ إجمالى توزيع صحفنا المطبوعة أقل من مليون نسخة يوميًا، هذا الرقم الذى لم يتغير رغم ما شهدته البلاد من تغيرات عاصفة فى السنوات الأخيرة. ربما زاد الرقم قليلا لمليونى نسخة فى وقت ثورة 25 يناير 2011، لكن الواقع الآن يجسده مشهد يسوده التخبط المصحوب بتقليص فى عدد العاملين وخفض للإنفاق على التوسع والتطوير، ووقوع مؤسسات صحفية فى شرك الاحتكار دون تغيير لافت فى المهنة ذاتها.
انتعاشة الصحف المطبوعة فى الهند، لم تكن مثيرة لتساؤلاتنا فى مصر فحسب، حيث سبقتنا علامات استفهام صناع الصحافة فى الغرب.. وللهند تاريخ طويل مع الصحافة المطبوعة، حيث تأسست أول صحيفة فيها منذ أكثر من 230 عامًا (منذ ١٧٨٠ وصدرت من إقليم كالكوتا)، وتضم أكثر من 82 ألف صحيفة، 33 ألفا منها ناطقة باللغات الهندية، التى يتحدث بها 41% من السكان من أصل 780 لغة، فضلا عن آلاف الصحف الصادرة باللغات الإقليمية، التى توزع ملايين الطبعات وجمهورها أكبر من ذلك.
«المصرى اليوم» تحاول فى السطور التالية معرفة أسباب ذلك من خلال أسئلة مباشرة طرحتها على عدد من مسؤولى الصحف الكبرى فى الهند، من بينها «تايمز أوف إنديا، هندوستان تايمز، وإنديان إكسبريس»، إضافة لتتبع ما فعلته لزيادة شعبيتها والحفاظ على ولاء القراء.
وربما تتعجب إذا علمت أن المقار الرئيسية للصحف العشر الأولى ليست فى العاصمة نيودلهى، عدا «هندوستان تايمز».
راجيش مينون، رئيس قسم الأخبار المحلية بصحيفة «Times of India» فى مدينة مومباى، قال لـ«المصرى اليوم»، إن حجم التوزيع ارتفع 310 ملايين نسخة يومياً، بواقع 250 مليون نسخة، للصحف والمجلات المطبوعة الصادرة باللغات الهندية المحلية، و60 مليونا للصادرة بالإنجليزية، وفق إحصاءات رسمية حكومية. وأشار إلى أنه من المتوقع أن تحقق الأخيرة إيرادات تقدر بـ 109 مليارات روبية، فى حين ستحقق الأولى ما بين 110 و113 مليار روبية.
وأضاف «مينون»، الذى توزع صحيفته وحدها أكثر من 46 مليون نسخة يوميًا: «هنا قراءة الصحف عادة، فنادرًا ما تجد منزلا فى الهند ليس لديه اشتراك فى إحدى الصحف.. وهناك من حول المحتوى إلى سلعة، وهذا خطأ، فما نحاول تقديمه فى صفحاتنا هو الذهاب إلى ما وراء الأحداث ومحاولة طرح فهم أعمق للقضايا ووضعها أمام ناظرى الجمهور.. نحاول أن نتجاوز الحقائق الأولية وتتبع عواقبها.. فالصحف مازال لديها القوة على المساءلة عن الأفعال والأقوال بحيوية وحرية، وهذا هو أحد الأركان الأساسية للديمقراطية. نحن السلطة الرابعة.. والهند تتمتع بحرية التعبير المُطلقة، وليس هناك رقابة من أى نوع».
ووفق رأيه الشخصى، اعتبر الرجل أن ما يجب أن تنشغل به الصحافة فى العالم، هو أن تحظى بـ«الثقة»، مستعينًا بما قاله مارتى بارون، رئيس التحرير التنفيذى لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية: «الثقة هى التحدى الأكبر لنا، ليس هناك أكبر من ذلك، نحن قلقون باستمرار الموارد وشبكات التواصل الاجتماعية والتطوير، إلا أن جميع هذه الأشياء تتضاءل عند مقارنتها مع هذا التحدى بشكل خاص».
وتابع: «ما يحدث على الشبكات الاجتماعية يفرض على الصحف أن تعيد اختراع نفسها، فمحتوى الفانيليا السائلة القديم (وهو مصطلح يقصد به المحتوى الروتينى)، ليس الأكثر قبولا لدى القراء، إنهم يبحثون عن الموضوعات المتخصصة، وليس من السهل أن يأتوا إلينا، علينا أن نذهب إليهم والعثور عليهم وتوفير ما يحتاجون إليه.. وقد قُلت إن الكلمة المكتوبة مازالت ذات قيمة لدى الناس، لكن لكى تكون فعالة لا يجب أن نفقد الاتصال مع الواقع على الأرض، وهذا ما تلعب مواقع التواصل دورًا كبيرًا فيه، فهى على الأقل تمنحنا المعلومات الأولية، وعلى الصحف التحقق منها بقيمة مضافة، ما يكسبها المزيد من المصداقية.. الصوت القادم من السوشيال ميديا لا يمكن تجاهله، لكن لا يجب أن يكون الصوت الوحيد».
«الصحافة المطبوعة فى الهند أيد أمينة، ولا تواجه أزمة»، قالها الرجل قبل أن يعد للاستناد إلى ما قاله رئيس التحرير التنفيذى لـ«واشنطن بوست»، عندما سألته عن «كيف يمكن للصحافة الرقمية أن تكون حلا لأزمات الصحافة المطبوعة وتساعدها على البقاء، فى ظل خفض الوظائف وتوقف بعض الصحف عن الصدور؟».
وأوضح أن مارتى بارون قال: «التكنولوجيا يمكنها أن تلعب دورًا هامًا فى تشكيل مسار الصحافة فى المستقبل، التكنولوجيا فى غاية الأهمية لنجاحنا، علينا مواكبتها وعدم التخلف عن الآخرين، ولا يمكن أن نصبح مجرد تابعين لأى تقنيات كبيرة، كونك تابعًا لم يعد مقبولا اليوم»، واعتبر «مينون» أن ذلك ينطبق على وسائل الإعلام المطبوعة فى بلاده.
أما نيكولاس دويس، رئيس التحرير السابق لصحيفة «Mail & Guardian» فى جنوب أفريقيا، الذى عينته «هندوستان تايمز» فى منصب رئيس التحرير التنفيذى ومسؤول المحتوى، فقال لـ«المصرى اليوم»: «هناك العديد من الأسباب لنجاح الصحف الهندية، من بينها وجود ثقافة قوية ودائمة مرتبطة بقراءة الصحف، والنمو فى مستوى الدخل بعد تحرير الاقتصاد، والنمو القوى لسوق الإعلان الذى دعم توسعات الصحف، ومثله حرية التعبير والبيئة السياسية الحيوية الداعمة أيضًا للنمو».
وأضاف أنه فى الآونة الأخيرة ظهرت صحف ناطقة باللغات الهندية، مثل الهندية والبنغالية والتاميلية والمالايالامية والمهاراتية، والتى أظهرت نموًا سريعًا فى ناحية الجمهور والمبيعات، مثل نظيرتها الصادرة بالإنجليزية.
وأشار «دويس» إلى أن وجود عدد سكان كبير جدًا فى حاجة إلى المعلومات التى لا تصل بشكل كاف إلى أماكن أخرى، فضلا عن مسوقين يبحثون عن وسيلة موثوقة للوصول إلى الجمهور، هذا ساهم فى تمتع الصحف بقدر لا بأس به من المبيعات والإيرادات.
وأوضح رئيس التحرير التنفيذى لصحيفة «هندوستان تايمز» أن أكبر اللاعبين فى سوق الأخبار الرقمية فى الهند هو المؤسسات الصحفية ذات الإصدارات المطبوعة بالأساس، وأن استراتيجيتها فى الحفاظ على الجمهور فى مواجهة صناعة الديجتال، تعتمد على تحليل للبيانات الرقمية على الإنترنت والدراسات الاستقصائية للجمهور والاستطلاعات اليومية والمسوح الشهرية الأكثر اتساعًا.
ويقول «دويس» إن «حرية التعبير أمر حاسم للمشهد الإعلامى المتنوع فى الهند.. لا يمكنك فصل حرية التعبير عن نجاح العمل فى الصحافة الهندية، حيث يمكنك أن ترى مناقشة لموضوعات من وجهات نظر متباينة بشدة فى الصحف، بالتزامن مع تحديات الثقة لدى الجمهور الذى يتابع عادة الأحداث الجارية من خلال المؤسسات الإخبارية الكبيرة الأكثر موثوقية».
وعن مخاوفه، قال «نحن قلقون من أننا لن نتغير بالسرعة الكافية لمواكبة تغير عادات الجمهور، وحتى إذا فعلنا ذلك، فإن عوائد الصحافة الرقمية لن تعوض ما بدأنا نفقده فى الصحافة المطبوعة.. هناك قلق أيضًا من أن الحريات التى نتمتع بها حاليًا تتآكل أو قد تمُنح سياسيًا لصالح البعض عن لاعبين آخرين (يقصد الصحف)».
وذكر أنه فى الوقت الذى تغيب بعض قصص المناطق الريفية والمجتمعات الأكثر فقرًا عن الصحف المحلية للمدن وكذلك مواقع الأخبار على الإنترنت، فإن هناك شبكات غير عادية من الصحفيين فى الصحف المطبوعة، هم أقرب إلى نبض الشارع عن أى أحد آخر.
فيد براكاش، رجل هندى لديه اشتراك فى صحيفة هندية منذ 15 عامًا «من أجل أبنائه»، رغم مروره بأزمات مالية، حيث قال لـ«أسوشيتدبرس»: «أتعرض للتأنيب من زوجتى طوال الوقت، التى تقول لى لماذا تضيع المال فى ورق بينما لا نملك مالا لشراء الطعام؟، لكنى رأيت الصحيفة استثمارًا فى مستقبل أطفالى، فخلال عملى كسائق، رأيت كيف يتحدث أطفال الأغنياء اللغة الإنجليزية ويعرفون كل شىء عما يحدث فى العالم».
وبعد سنوات من قراءة الصحيفة أتى استثمار الرجل ثماره، حيث ترقى ابنه فى سلم العمل بالعديد من الشركات وحقق بعضًا من النجاح الذى كان يأمله.
ويرى أنانت جوينكا، المدير التنفيذى لمجموعة «إكسبريس» الإعلامية الصادرة عنها صحيفة «IndianExpress» اليومية، أنه رغم سير الأمر بشكل عكسى فى الغرب، مصحوبًا بخفض عدد الصحفيين أو اضطر بعضها للتحول للنسخة الرقمية على الإنترنت، إلا أن «الهند بعيدة عما نشهده من تحولات، حيث نمو الصحافة المطبوعة هنا مازال قويًا جدًا».
وعن ارتفاع مبيعات الصحف وعوائد الإعلانات، أوضح أنانت جوينكا، فى حديثه لـ«المصرى اليوم»، أنه «بسبب نظام توزيع الصحف مباشرة على عتبات المنازل بتكاليف منخفضة، وهذا ما يجعلها الوسيلة المفضلة لتناول الأخبار ويضمن توزيعها على نطاق أوسع، وبالتالى المعلنون قادرون على الوصول إلى أغلبية السكان، فضلا عن الولاء الذى تتمتع به الصحف المطبوعة لا يمكن إنكاره، وثالثا الزيادة المثيرة للإعجاب للصحف المكتوبة بالعامية التى تحظى بجمهور ضخم من القراء، وهذه أسباب أساسية لحصول الصحف على الإعلانات».
ومثله، قال براديب دويفيدى، من صحيفة «داينيك بهاسكار» أو «الشمس»، التى تصدر من مدينة «بوبال»، فى وسط البلاد: «حاليًا، لاحظ المعلنون انتشار الصحف المطبوعة بالعامية وقدرتها على الوصول لعملائها وازدهارها فى المدن متوسطة الحجم، نتيجة لزيادة عدد القراء فيها، فى ظل النفوذ الاقتصادى المتزايد للطبقة الوسطى، وصناع السلع الاستهلاكية سريعة الحركة، الذين يستخدمون العامية فى تعاملاتهم عندما يبحثون عن عملائهم المحتملين فى المدن الصغيرة والمناطق الريفية.
إطلاق نسخ جديدة وطبعات إقليمية يعد إحدى آليات الصحف للحفاظ على جمهورها فى مواجهة الصحافة الرقمية، فإلى جانب طبعتها الرئيسية لعموم الهند، أطلقت «Indian Express» نسخة منها خاصة بـ«جايبور»، التى تُعرف بـ«المدينة الوردية» عاصمة إقليم راجستان، الواقع شمال غرب الهند. ويبلغ عدد سكانها وحدها أكثر من 3 ملايين نسمة.
وأضاف «جوينكا»: «المعلنون، خاصة مُعلنى العقارات، يحصلون على استجابة أفضل بعد نشر إعلاناتهم فى (Loksatta)، وهى صحيفة يومية تصدر عن مؤسستنا فى 5 مدن بولاية ماهاراشترا، وذلك بعكس مردود إعلانهم فى قنوات التليفزيون المحلية».
ولذلك تتمتع الصحف بمصداقية لدى القارئ والمعلن بشكل أكبر عن أى وسيلة أخرى «وبالمناسبة وسائل الإعلام الرقمية تنمو، ومؤسسات مثل (إكسبريس)، تعتقد أن هناك فرصة كبيرة أمامها لأن الصحف المطبوعة (رغم ارتفاع توزيعها) فإنها لم تخترق سوى 15% من سكان الهند، حسب «جوينكا».
وتشتهر «Indian Express»، التى يعمل فيها 420 صحفيًا، بتحقيقاتها «الشجاعة» وتتضمن صفحاتها تغطيات وآراء «ذكية»، وأخبارها «الحصرية» التى يتم الاعتماد عليها فى نشرات الأخبار التليفزيونية فى محتوى وقت الذروة.
المدير التنفيذى لمجموعة «إكسبريس» الإعلامية، يؤكد أن اتساع نطاق الحريات وحرية التعبير فى الهند ساهم فى زيادة مبيعات الصحف وشعبيتها، وانتشار الصحف المستقلة «فمنذ الاستقلال (15 أغسطس 1947)، سمحت هذه الحرية للصحافة بإيصال صوت من لا صوت لهم، وسمحت أيضًا لصحف مثل (Indian Express وThe Hindu) أن تكسب ثقة الجمهور واحترامه عن طريق ذكر الحقائق باستمرار فى مواجهة أصحاب السلطة».
الأمر ليس ورديًا تمامًا، فصناع الصحافة فى الهند لديهم مخاوف من ارتفاع التكاليف، «ولكن الأهم من ذلك، أننا نشهد ظهور العديد من الصحف الصغيرة أو حتى مؤسسات إعلامية كبيرة يديرها ويملكها أصحاب المصالح أو عدد قليل من السياسيين الذين لا يفصحون عن ملكيتهم لها.. إنها تتسبب فى فقدان ثقة الجمهور، وهذا ستكون له تداعيات بعيدة المدى على الأعمال التجارية».
ويرى «جوينكا» فى الصحافة المجتمعية واحدا من الأسباب الهامة لنمو الصحف المطبوعة، خاصة الصحف العامية، لأن القراء يريدون أن يكونوا على اطلاع دائم على ما يحدث فى مكانهم، وهذا له أهمية كبيرة لأنه يؤثر بشكل مباشر على حياتهم، وذلك عبر محتوى محلى يركز على التطورات الجارية فى المجتمع.
تشير الدراسات اللغوية الهندية إلى وجود 780 لغة فى البلاد، لكن هذا لم يحُل دون محاولة الصحف تلبية احتياجات واهتمامات القراء، «ولعل ذلك أحد أسباب عدم اعتمادنا بشكل كبير على المراسلين الأجانب، لأن لدينا القدرة على الذهاب إلى ركن فى بلادنا وتغطيته، وجزء كبير من نمو الصحف يعود إلى قدرتنا على فهم الاحتياجات المتنوعة ومعرفة نبض الشارع، فهناك الصحف المتخصصة، التى تقدم معلومات محددة لقرائها بغض النظر عن نشر الأخبار العامة.. وكذلك إصدار الطبعات الخاصة بالمدن والمناطق، والملاحق الخاصة التى تلبى عادة احتياجات شخصية للقراء، وتقدم محتوى فريدا، الصحف أيضًا تعمل على إنتاج محتوى خاص يمكن بثه على شبكات التواصل الاجتماعى».
وأضاف: «التحول الرقمى فى الصناعة انعكس فقط على وسائل الإعلام القديمة والصحف الجماهيرية، مثل موقعنا indianexpress.com، كما أن معظم مستخدمى الشبكات الاجتماعية لا يقرأون الصحف عليها، يمكنهم مشاركة بعض الموضوعات، لكنهم مهتمون أكثر بشراء الصحيفة كشىء مادى ملموس، فالوسيط الرقمى مجرد إضافة قيمة فقط».
ويعتقد أنانت جوينكا أن «سؤال المليون دولار»، كما يصفه، المطروح لدى القائمين على صناعة الإعلام فى الغرب ولدينا أيضًا، حول «لماذا مازالت الصحافة المطبوعة مزدهرة فى الهند؟»، جوابه الوحيد أن على الصحف أن تسعى لتحقيق معادلة متوزانة، وإيجاد نموذج يكون فيه لكل لاعب تجربته التى تجد وسيلتها للنفاذ على طريقته الخاصة.
ويعد ثمن الصحف فى الهند رخيصًا عن نظيرتها فى العالم، حيث تباع الصحيفة اليومية بأقل من «10 سنتات أمريكية»، وعبر الحفاظ على أسعار منخفضة تمكنت الصحف اليومية من الحصول على جمهور كبير للإعلانات المطبوعة.
وتتوقع شركة «KMPG» العالمية للخدمات المهنية والاستشارية أن تشهد الصحف الإقليمية نموًا يتراوح ما بين 12 إلى 14% فى السنوات المقبلة، فيما تؤكد بحوث على جمهور القراء أنها ليست بحالة جيدة فقط، لكنها تتوسع.
ويقول خبراء الإعلام إن المدن الصغيرة تقود ازدهار الصحف، حيث سكانها الطموحون من الشباب، خاصة مع الطفرة التعليمية فى البلاد فى العقود الخمسة الماضية، وارتفاع معدلات معرفة القراءة والكتابة، والتى نمت من 65% إلى 74%، فى الفترة ما بين عام 2000 إلى 2011.
«فى الهند، مصداقية الصحف والكلمة المكتوبة هى وسيلة الناس للتأكد مما تبثه القنوات الإخبارية التليفزيونية»، حسبما أوضح P.N. Vasanti، مدير مركز دراسات الإعلام فى نيودلهى.
وتغير شكل وتغطية الصحف أيضًا، بإضافة ملاحق ذات صفحات ملونة عن الغذاء والأزياء واللايف ستايل، التى تعتمد على تلبية احتياجات الشباب المتنامى عددهم، وذوى الدخل المنخفض.
ويعتقد أجاى دانج، مدير تسويق صحيفة «هندوستان تايمز»، أن وجود علاقة شخصية مع القراء على المستوى المحلى هو مفتاح الحل.. «انظروا إلى ما قمنا به، هذا يعنى الارتباط مع الناس بشكل أسرى يُظهر أننا نفهم كيف تبدو حياة قرائنا».
وفى حديثه لموقع «adge» الأمريكى المهتم بالتسويق، ضرب «دانج» مثالا على ذلك، عندما تفاعل سكان مدينة مومباى مع فعالية «يوم بلا تليفزيون»، فإنها فى حقيقة الأمر كانت عبارة عن حملة لصحيفة «هندوستان تايمز»، وتنظم سنويًا فى السبت الرابع من شهر يناير، حيث تدعو الصحيفة سكان المدينة الصاخبة إلى توثيق الترابط الأسرى وإغلاق أجهزة التليفزيون، وذلك عبر إعلانات مطبوعة فيها ولوحات إعلانية بالشوارع.
«هندوستان»، التى ظهرت فى 2005، تصدر طبعة خاصة لـ«مومباى»، وتعمل مع المدارس المحلية بالمدينة، من خلال إرسال كتيبات مع الطلاب لدى عودتهم إلى منازلهم، لتذكير أسرهم بضرورة المشاركة فى العطلة (يوم بلا تليفزيون)، الذى تقام مسابقة للرسم للأطفال، وخلال هذا اليوم تفتح المتاحف المحلية أبوابها مجانا، ويقوم مسؤولون محليون بتنظيم مخيمات لممارسة اليوجا والتنزه.
وكدليل على نجاح الحملة، انضمت شركات إليها وأعلنت طرح منتجاتها بأسعار معقولة، ونشرت إعلانات مماثلة بالشوارع لتشجيع الناس على المشاركة فى العطلة، باستخدام شعار «حياة حقيقية.. أطفئ التليفزيون».
ويقول مدير تسويق «هندوستان»: «فى عملنا، الأمر يعنى استثمارًا أعمق فى حياة قرائنا الشخصية، بدلا من مجرد الاهتمام بزيادة المبيعات.. أنت تواجه منافسة حينما تحاول أن تمثل الصحيفة شيئا لدى القراء على نحو يعتبرونها جزءًا من حياتهم».
هذا المنافس هو صحيفة «تايمز أوف إنديا»، التى تعد أكثر الصحف الناطقة بالإنجليزية توزيعا فى العالم.. وسبق أن فازت بجائزة مهرجان «Cannes lions» للإبداع عن حملتها «يوم فى حياة... ».
وتبنت الصحيفة حملات قائمة على المشاركة المجتمعية، مثل حملتها «Lead India»، لإلهام القيادات الشعبية المحلية، كما تصدر طبعات إقليمية تركز على حال سكان المناطق المحلية.
سينثل كومار، مدير مركز الإبداع الوطنى، الذى دعم حملة الصحيفة فى مدينتى «كيرلا وشيناى»، قال: «إذا كان هناك شىء واحد فعلته الصحيفة، فيمكن أن يتمثل فى التقاطها صورا لهذه المناطق، وإلقائها الضوء على طبيعة الحياة فى هذه الأماكن».
وأشار إلى أن «الصحف المحلية تركز على حياة المواطنين والفئات الأولى بالرعاية، ومازالت قراءتها جزءا من روتين الصباح، على الرغم من نمو مواقع الأخبار على الإنترنت.. متابعة الأخبار على الإنترنت تعتبر ظاهرة حضرية هنا، ولا تقوم بذلك إلا فى وقت لاحق من اليوم، لوجودك فى العمل»، يقول كومار.
استثمارات عالمية فى صناعة الصحافة الرقمية بالهند
رغم اطمئنان الصحف إلى حجم مبيعاتها، إلا أن هناك مواقع متطورة على الإنترنت آخذة فى الظهور كبدائل لها، مثل «Firstpost.com»، وهو موقع هندى أطلق على غرار موقع «هافنجتون بوست».. وفى الوقت المناسب، قد تشكل تهديدًا مشروعًا فى معقل الصحافة المطبوعة بالهند.
ازدهار الصحافة فى الهند، دفع وسائل إعلام عالمية إلى دخولها «رقميًا» عبر اللاعبين الرئيسيين فى الهند، حيث لا يمكنك تحقيق النجاح السريع هناك، إلا بطريقين، إما أن تنشئ مؤسسة ذات مقر ثابت فى الهند تتولى إدارة أمورها محليًا، من ناحية التشغيل والتحرير والتوزيع، وهو ما فشلت فيه «نيويورك تايمز، BuzzFeed، مشابل، هافنجتون بوست، تك كرانش» وآخرون، لأنه من الصعب أن تبنى علامة تجارية وتقوم بتطويره فى سوق تنافسى كهذا.
أما الطريقة الثانية، فهى أن تدخل السوق من خلال إقامة شراكة مع إحدى وسائل الإعلام الهندية الكبيرة العاملة فى الهند، وهو ما أخذت به شبكة «Vice» الإخبارية الأمريكية، التى وقعت شراكة مع مؤسسة «تايمز أوف إنديا»، وأنشأت مكتبًا جديدًا لها ومركز إنتاج فى مدينة مومباى، حسبما قال هاسيت شاه، الصحفى السابق فى «بى بى سى»، فى تقرير كتبه على موقع مختبر «نيومان» للصحافة الشهر الجارى. وساهمت الطفرة الرقمية فى الهند، فى نمو المؤسسات الإعلامية الرقمية، رغم مواجهتها منافسة قوية من وسائل الإعلام الرئيسية، ومن بينها موقع «Scoop Whoop» الذى يستهدف نفس جمهور «Vice»، و«BuzzFeed »، كموقع للترفيه الاجتماعى، وأصبح ينتج أعمالا جادة وأفلاما وثائقية، حيث يبلغ جمهوره 200 مليون شخص.