لم تكتمل فرحتهم بالعودة إلى أحضان الوطن، عقب تحريرهم من الميليشيات المسلحة في ليبيا، حتى فوجئوا بسيف مصلط على رقاب ذويهم الذين وقعوا «إيصالات أمانة» لسداد مبلغ الفدية الذي طلبه الخاطفون، فقرروا العودة إلى «الجحيم» مرة أخرى ولسان حالهم: «إيه اللى رماك على المر؟».
أكثر من 12 شخصا بقرية عبدالرحمن محمد وشهرتها «العذابوة» والتى تبعد 40 كيلو عن مركز إطسا بالفيوم، استحبوا الموت في جحيم ليبيا، عن الحياة في غيابات الجب بسجون مصر لعدم قدرة ذويهم على سداد الشيكات.
سميت القرية بهذا الاسم لـ«شدة العذاب» في الوصول إليها أو العيش فيها، فلا يوحد بها مدرسة أو حتى «كتاب» أو وحدة صحية، والمواصلات الوحيدة المتاحة هي «التوك توك» بأجرة موحدة 10 جنيهات، وهى من أكثر القرى الطاردة لسكانها، بحثاً عن العمل بالخارج، ومعظم شبابها يسافرون إلى ليبيا بطرق غير شرعية، لأنهم مصابون بفيروس «C» ومن ثم يتم رفض سفرهم بالطرق الشرعية.
تحكى «سماح» زوجة «جمعة جعفر»، أحد العائدين من ليبيا، أن زوجها مضطر للعودة إلى الجحيم، قائلة: «لو في ليبيا تقطيع للرقاب هيرجع لها».
وتضيف: «عندما دق جرس الهاتف بعد انقطاع الاتصال بينى وبينه لمدة يوم ونصف، لطمت على وجهى بمجرد معرفتى باختطافه». وتواصل: «اتصل أحد أفراد التنظيم الإرهابى لأقل من دقيقة وكان الرسالة واضحة (مطلوب فدية 20 ألف جنيه وإلا سنقتل زوجك)، وأغلق الخط في وجهى، ثم اتصل زوجى، وقال لى (ارحمونى وادفعوا الفدية.. استلفوا بيعوا.. اعملوا أي حاجة)».
وتقول: «نحن لا نمتلك ذهبا أو أي أموال وأنا مصابة بـ(الروماتويد) وأحتاج لعلاج بـ1000 جنيه شهرياً، فاضطر أخوه للتوقيع على شيك على بياض لاقتراض مبلغ الفدية».
وتضيف: «دفعنا الفدية، ثم انقطع الاتصال لمدة يومين، ثم اتصل زوجى وقال إن الجيش الليبى سيسلمه للجيش المصرى»، وتواصل «باكية»: «أعرف أن الوضع في ليبيا لا يوجد به أمان لكننى مضطرة أن أساعده ليسافر مرة أخرى لسداد الشيكات».
وتشير إلى أن زوجها استطاع توفير 35 ألف دينار ليبى، عقب عمله لمدة 14 شهراً حتى يتمكن من شراء منزل، قائلة: «كل أحلامنا راحت على الأرض غير الدين، وأتمنى أن تساعدنى الحكومة في سداد الدين حتى لا يتعرض زوجى للسجن، وحتى إذا قرر إكمال حياته في مصر، مفيش ولا مليم ولا شغل ولا وظيفة، ونحن أسرة مكونة من 4 أطفال، وزوجة مريضة».
وهنا تدخل «جمعة» في الحديث، لسرد وقائع الخطف قائلاً: «تحركنا من مصراتة الليبية في الحادية عشرة والنصف مساء، ومشينا 2 كيلو على الطريق، وفوجئنا باعتداء علينا من مجموعة من المسلحين، وتم نقلنا كل 8 في سيارة، وبعدها تم وضعنا في حوش بمنطقة جبليّة، وعقب يوم كامل من الضرب والتعذيب قال لنا زعيم العصابة إننا مختطفون وطلب 20 ألف دينار ليبى، وبعد أن سرقوا كل النقود التي كانت معنا، قرروا تخفيض المبلغ إلى 20 ألف جنيه مصرى».
ويواصل: «عقب دفع الفدية، قامت المجموعة بترحيلنا لمجموعة مسلحة أخرى بمقابل 350 ألف دولار، وعقب انتقالنا مسافة 3 كيلو مترات على الطريق، ألقى الجيش الليبى القبض علينا، وتم ترحيلنا إلى مناطق أشبه بالأحواش، وبعدها تم تسليمنا للجيش المصرى الذي أوصلنا لبرّ الأمان إلى حدود السلوم».
وبمزيد من الأسى، يضيف: «بالرغم من كل هذا العذاب سوف أعود إلى لييبا مرة أخرى عشان لو فضلت في مصر هاشتغل حرامى، لأنى ببساطة عامل يومية بـ20 جنيه»
ويحكى ثروت محمد، أحد المختفطين، قائلاً: «ركبنا مساء الجمعة من مصراتة حتى وصلنا إلى كافتيريتا «آل براجا»، وفوجئا بالجماعة المسلحة ترفع السلاح علينا وقيدوا أيدينا، ثم تحركنا لمسافة طويلة في الجبل».
ويتابع: «ضربوبنا بالسنج وخراطيم وأسلاك الكهرباء، واستمروا في تعذيبنا حتى بعد دفع الفدية»، مشيداً بتعامل الجيش المصرى معهم بمنتهى الاحترام.
وعلى مقربة من بيته، جلست الحاجة «فاطمة»، بأحد المنازل المتهالكة التي سقط سقفها الخشبى، وهى أم لشابين يعملان في ليبيا «عبده وأيمن»، وهما عاجزان عن إرسال أي أموال لها لأنهما عمال بناء، حيث يخافان على أنفسهما من الخطف في السوق حال خروجهما للعمل، كما أنهما غير قادرين على العودة لمصر عبر الطريق البرى خشية اختطافهما أيضاً، وهى مأساة تصفها الحاجة فاطمة بالقول: «كل ولادنا كده.. اللى هناك مش عارف يرجع، واللى رجع مش طايق يقعد».