أحمد كامل (2)

نصار عبد الله السبت 13-08-2016 21:46

كان من المقرر- كما قيل لنا- أن تدوم زيارة السيد أحمد كامل، محافظ أسيوط، لمدة ساعة، لكن الحوار بينى وبينه استمر لما يقرب من ثلاث ساعات منتجاً حالة من التلاقى الفكرى والإنسانى كان من الممكن معها أن يمتد إلى أكثر من ذلك لولا مفاجأة لم تخطر على بال أحد، فقد فوجئنا بشخصين يدخلان وهما يرتديان الملابس المدنية، لكنهما يمشيان مشية تشى بأنهما عسكريان!.. على بعد خطوات من المنضدة التى كان أحمد كامل يجلس إليها فى مواجهتنا، توقف الرجلان، وقال أحدهما بصوت مسموع: عفوا يا سيادة المحافظ، أنا الرائد (....) مباحث عامة، هناك أمر عاجل نريد إبلاغه إليكم.. أشار إليه المحافظ بالاقتراب.. فاقترب كثيرا.. مال على أذن المحافظ بالهمس، ورد عليه المحافظ بعبارات هامسة أيضا، لم نستطع أن نتبينها.. دار بينهما حوار طويل هامس لم نتبين منه سوى عبارة معينة عندما علا صوت الضابط فجأة وهو يقول: «مش ممكن إطلاقا يا فندم.. دى أوامر عليا».. (مازلت إلى الآن لا أعرف على وجه التحديد ماذا كان يقصده بالضابط بأنه: مش ممكن إطلاقا!).. المهم أن المحافظ نظر إلىّ قائلا: أستاذ نصار.. هناك خبر سيئ بالنسبة لك، سوف يبلغه لك سيادة الرائد.. لو تكرمت، تفضل هنا.. حين وصلت إلى المنضدة.. فاجأنى الضابط بالخبر.. قال لى بعبارات سريعة حاسمة كمن يتلو حكماً: «صدر اليوم قرار اللجنة العليا لتصفية الإقطاع بفرض الحراسة العامة على والدك وجميع أفراد أسرته، وإبعادهم عن الريف، وتحديد إقامتهم بالقاهرة، وأنا مكلف باصطحابك الآن إلى محطة السكة الحديد والتأكد من ركوبك أقرب قطار.. قلت: ألا يمكن أن أسافر إلى البلد لتوديع الحاجة الوالدة؟ قال: مالهوش لزوم، بيتكم بالبلد تم إخلاؤه ممن فيه وتشميعه، والحاجة تم ترحيلها إلى القاهرة!!.. وللعلم بيتكم فى أسيوط تم أيضاً تشميعه، باختصار: لم يعد لكم مكان فى الصعيد! عندما تصل إلى القاهرة عليك أن تتوجه إلى المباحث العامة بلاظوغلى لمقابلة المقدم (...)، وسوف يبلغك بما يتعين عليك أن تفعله!.. كان الزملاء قد بدأوا يستوعبون ما حدث، وراحوا واحداً بعد الآخر يشدون على يدى ويعانقوننى مودعين، وقال أحمد كامل: «أنا على يقين من أن هناك خطأ ما.. أنت تعلم بغير شك أنه لا تخلو أى تجربة إنسانية من الخطأ».. أصر على أن يودعنى حتى باب المعسكر، وشد على يدى وهو يقول: «قلبى معك.. وأعدك بأنى سأفعل كل ما بوسعى».. وطفرت من عينه دمعة.. تأثر بعض الرفاق بالموقف فسالت دموعهم.. حاول بعضهم أن يستقلوا معى البوكس، لكن الضابط منعهم، ساروا على الأقدام متجهين إلى المحطة وهم يلوحون لى، أدركونا ونحن مازلنا واقفين على الرصيف ننتظر القطار.. عانقونى مرة أخرى، وآثار الدموع مازالت على عيونهم.. كان أشدهم تأثراً عبدالحق حامد الذى لم يقدر لى أن ألتقى به من قبل، ولم يقدر لى أن أراه بعدها.. بادرنى بالسؤال: مش محتاج فلوس.. تذكرت لحظتها فقط أننى ليس معى نقود، ففى معسكر الإعداد الاشتراكى- الذى يخلو حتى من الكانتين- لا يحتاج المرء إلى النقود، وبيتنا كان قريباً منه على أية حال (لكنه أصبح الآن بعيداً جداً)، قلت له: اقرضنى جنيها لكى أدفع أجرة القطار.. لم أزل إلى الآن مدينا له بالجنيه.. ومدينا له- وللسيد أحمد كامل أيضا- بما هو أهم وأغلى.. أعنى تلك المشاعر الإنسانية النبيلة التى لا تنسى.. بعد تلك الواقعة بسنوات قليلة تم القبض على أحمد كامل فى بداية عصر السادات، وحكم عليه بالسجن بعد محاكمة هزلية.. فكرت يومها أن أرسل إليه خطابا فى سجنه أقول له فيه: قلبى معك...لكننى بعد تفكير وجيز قلت لنفسى: «وهل هذا زمن يمكن أن يصل فيه الخطاب إلا إلى يد السجان»؟!

nassarabdalla@gmail.com