لم أفهم يومها ما يقصده الرئيس بقوله إن عبدالناصر كان محظوظا بإعلامه، توقفت لحظات أمام العبارة التى جاءت أثناء لقاء للرئيس قبل عام تقريبا، قلت ربما يقصد أن نظام عبدالناصر صنع إعلاما للحشد الجماهيرى وصناعة الصورة وتوحيد الرؤية، وتحويل كل إنجاز إلى حالة شعبية يتغنى بها المصريون، بدليل كلمات صلاح جاهين التى عاشت حتى الآن، وربما لا نجد غيرها نستدعيها فى مناسبات الوطن، حتى وإن كانت لا تناسبنا، قلت: هل يريد الرئيس مثلا أن نقول له اطلب تلاقى (٩٥) مليون فدائى فى جميع الميادين، أو نقول: بقرش الادخار نتحدى الاستعمار ونقيم جدار جبار يحمى حياة العاملين، ولنردد كلمات عن الخطة الخمسية التى نستعين بالله على إنجازها، أو نشرة الأخبار التى تتحدث عن أن الرئيس ذهب، والرئيس جاء، والرئيس افتتح وأنجز و... و...، أو السينما التى صالت وجالت فى عصر ديمقراطية وأحزاب ومجتمع ما قبل ثورة يوليو، مجتمع النصف فى المائة، أو صحافة الكبار وإبداعات الكبار، ويكفى هنا الإشارة إلى نجوم الدور السادس فى جريدة الأهرام؟!
الأمر اختلف، والدنيا غير الدنيا الآن، وإعلام عبدالناصر كان يدعم مشروعا ومنهجا وخطا، هذا المشروع والمنهج وهذا الخط كان يتحدى البنك الدولى الذى رفض تمويل السد العالى، فكانت (الضربة القوية)، كيف لنا الآن أن نغنى للبنك والصندوق اللذين سيقرضاننا ١٢ مليار دولار، ربما تذهب لسد جزء من عجز الموازنة، والإعلام فى أحسن حالاته يغرقنا فى متاهة مفادها أن: القرض والصندوق كويسين ولكن!! أو أن القرض والصندوق مش كويسين ولكن!! فيكون قرار المواطن هو الانصراف، واعتبار أن القصة كلها لا تعنيه، وتمضى الأمور، وتطالعنا الصحف والإعلام المرئى مثلا بتفاصيل زيارة وزير خارجيتنا فجأة لإسرائيل، كيف يصنع الإعلام هنا دعما شعبيا للزيارة؟ بعد أن كانت إسرائيل فى إعلام عبدالناصر المحظوظ عدواً (وإيش حال يوم تحريرنا فلسطين).. ربما أصبحت فلسطين الآن هى العدو، لا أحد يعرف، فيكون قراراً بالانصراف عن الإعلام، وتمضى الأمور، ولا مانع أن نغرق بين الحين والآخر فى قصة من قصص الدجل والشعوذة وجرائم الثأر والشرف التى لا تنتهى حتى بالدماء، ويكون قرارا بالانصراف، وتمضى الأمور. ومن انصراف إلى انصراف ونبتعد عن إعلام لا يترجم منهجا ولا خطة.
ربما يقول قائل إن المنهج والخطة موجودان، ولا نعرف لماذا ينصرف الناس عنهما؟
الأمور اختلطت وتعقدت والناس انصرفت إلى حلقات شديدة الضيق من مصالحها وحاجاتها اليومية، وعبدالناصر لم يكن محظوظا فى إعلامه، ولا تستقيم المقارنة هنا ولا يصح الاستدعاء، والمنهج والخطة اللذان غابا، الآن هما اللذان يستجلبان الحظ والدعم وصناعة التوجه، فحظ عبدالناصر- إذا جاز التعبير- كان بانحيازه ووضوح وجهته ومشروعه.. وضوح فى التعليم والصحة والبنك والصندوق، فكان الحظ، وكان المصريون يعرفون الطريق. الرئيس أراد حظ عبدالناصر بلا مشروع ولا طريق.. اللهم إلا الطريق الوحيد الذى يصل بنا إلى حالة الانصراف.