«ماسبيرو»... كافيتريا للبارد وشاشة للساقع!

طارق الشناوي السبت 06-08-2016 21:42

يبدو الأمر للوهلة الأولى عاديا وبسيطا وهو أن رئيسة اتحاد الإذاعة والتليفزيون السيدة صفاء حجازى قررت إيقاف الوجبات الساخنة فى كافيتريا ((ماسبيرو)) الشهيرة فى الدور العاشر، التى كانت مقصد الموظفين والفنانين والفنيين الذين تجبرهم ظروف العمل على التواجد داخل المبنى لساعات طويلة، قرار رئيسة الاتحاد هو الاكتفاء بالأكلات الباردة داخل المبنى إيثارا للسلامة، حيث يبدو أن العديد من الحرائق اشتعلت مؤخرا فى المطبخ الملحق بالكافيتريا بسبب الإهمال، صحيح تمت السيطرة عليها ولكن من يضمن ألا تشتعل واحدة تتجاوز قدرة المبنى على التعامل السريع معها، وهكذا وجدت رئيسة الاتحاد أن الحل السريع والمضمون هو إلغاء الساخن والاكتفاء بالمعلبات، ولم تشغل نفسها كثيرا بالحل الصحيح والمنطقى وهو التعامل المباشر مع مصادر الخطر، والبحث عن أسباب الحريق المحتملة، ويتم بعدها تحقيق شروط الأمان الدائم والضرورى، فلو شب حريق مثلا فى الاستوديو هل نمنع التصوير، وهل عندما ينقلب قطار بسبب خطأ فى بناء القضبان نلغى القطار أم أن المنطق يقضى بإصلاح القضبان.

هذه المقدمة المتعلقة بالمسموح أكله وشربه فى ماسبيرو والتى تبدو للوهلة الأولى بعيدة تماما عن الشاشة، إلا أنها تمنحك مفتاحا تستطيع أن تقترب من خلاله لفك شفرة تلك الشاشة، وتعرف بالضبط كيف يدار هذا المبنى الذى تم افتتاحه 21 يوليو عام 1960 وأطلقوا عليه لقب ((التليفزيون العربى الذى ولد عملاقا))، وهكذا دخل التاريخ بهذا اللقب المزدوج، عربى وعملاق، وكنا كلنا سعداء بأنه ينتمى إلينا، ملحوظة افتتح فى نفس اللحظة البث التليفزيونى فى سوريا التى كانت تُسمى وقتها الإقليم الشمالى على اعتبار أننا الاقليم الجنوبى فى ((الجمهورية العربية المتحدة)) ووصفوه أيضا بالعربى والعملاق، وتجاهلنا أنه مجرد أنه ولد عملاقا ولم يأخذ حقه الطبيعى فى النمو التدريجى فإن هذا يعد أول مظاهر المرض.

ولديك الآن شعار الكافيتريا للبارد فقط واحدة من مظاهر الشيخوخة المبكرة التى سكنت ملامح عملاقنا وأحنت ظهره وزادت من معدلات هوانه على الناس وتفرده بالمركز الأخير فى أى قياس للرأى. الكافيتريا نقطة انطلاقنا لكى نُطل من خلالها على العقلية التى يدار بها المبنى فى السنوات الأخيرة، أقصد تحديدا بعد ثورة 25 يناير، أى منذ أن قرر المجلس العسكرى الذى كان يدير شؤون البلاد فى أعقاب الثورة تعيين اللواء بسلاح الدفاع الجوى طارق المهدى مشرفا على الإعلام، برغم كل ما علق بالمبنى فى السنوات الخمس الأخيرة قبل 25 يناير، والتى تولى فيها أنس الفقى مسؤولية الإعلام، بعد أن أخذ هذه التركة من صفوت الشريف، بالطبع كان قد سبق أنس على نفس المقعد ولمدة عام واحد ممدوح البلتاجى، ولكنها أشبه بمرحلة وسيطة بلا ملامح واضحة ولهذا تسقط بسرعة من حساب الزمن، كان التليفزيون فى عهد أنس لايزال على المستوى الاعلامى يحتل مساحة لا تُنكر من الاهتمام والمصداقية، وكان برنامج ((البيت بيتك)) يقف بقوة أيضا فى مواجهة القنوات الخاصة، حيث تنتشر برامج مماثلة فى كل الفضائيات، ولكن كان للبرنامج تواجده، خاصة أن الدولة تنبهت لعامل نجومية مقدم البرامج وقدرته على جذب الجمهور ومن ثم الإعلانات وهكذا كان الاعلامى محمود سعد يتصدر المشهد البرامجى فى التليفزيون الرسمى، ثم جاءت ثورة يناير فتغير تماما وجه ماسبيرو وصار خارج نطاق الخدمة، وزادت مساحات التراجع، برامجيا ودراميا وتضاءلت معدلات المصداقية، لتصل الآن إلى أدنى درجة.

تتابع أكثر من وزير إعلام تبعا لتوجه الدولة فى مرحلة المجلس االعسكرى أسامة هيكل وفى مرحلة مرسى جاءوا برجلهم الإخوانى صلاح عبدالمقصود، ثم جاءت مع ثورة 30 يونيو د. درية شرف الدين بكل ما تحمله من خبرة وتاريخ مشرف، ولكن حالة المبنى المتردية لا تُصلح بمجرد تغيير الأشخاص، والكل يدرك أن الكثافة البشرية التى تتجاوز46 ألف موظف فى هذا المبنى تعرقل العمل، فهل تمكن اللوائح والقواعد المعمول بها إداريا والمكبلة لأى قيادة فى التخلص من 40 ألف موظف زائد عن العمل لأنها تتحول إلى قوة سالبة. جاء عصام الأمير إلى قيادة ماسبيرو كرئيس لاتحاد الإذاعة والتليفزيون بعد إلغاء موقع الوزير، وكان يبدو فى الأفق سؤال بدا يتردد بقوة، وهو مدى ولاء مقدمى البرامج والعاملين فى تسجيلات الهواء للدولة، هناك مساحة من التشكيك فى إخلاص عدد منهم، وبسبب خطأ أطاحت الدولة بالأمير وجاءت بحجازى، وهكذا وعلى طريقة إلغاء الوجبات الساخنة من الكافتيريا قررت صفاء حجازى تقليص برامج الهواء، حتى تخضع جميعها للرقابة المسبقة قبل العرض، ماسبيرو يخشى انفلات بعض مذيعيه أو عدم التقدير لما يقال وكيف يقال، وهل هو فى صالح السلطة السياسية أم لا، هذا عن المذيعين فماذا عن المشاهدين، تقرر كما أشارت صفاء حجاى استيراد أجهزة تكشف اسم المتحدث، خاصة أن الرئيس السيسى تعرض مؤخرا لهجوم من متصل عشوائى، والمؤكد أن هذا الاتصال هو الذى دفع صفاء حجازى إلى سرعة اتخاذ إجراءات تمنع تكرار الموقف، لقد تم التخلص من عصام الأمير الرئيس السابق للاتحاد بسبب أشياء مشابهة، حيث اجتمع مجلس الوزراء ليلا وقرروا إبعاده وتوجيه خطاب شُكر له، بعد أن تكررت حالات انفلات المذيعين وأشهرهم عزة الحناوى، التى هاجمت الرئيس مباشرة فى برنامجها على القناة الثالثة مرة وكررت الأمر بعد أسابيع قليلة، وكان المنطق فى عُرف الدولة هو إيقافها تماما بعد الأولى، بينما وجد عصام أن منحها فرصة ثانية أفضل، فقرر مجلس الوزراء استبعاده.

لا أتصور أن الضبط والربط بهذا المنطق الأمنى هو مأزق ماسبيرو، وإذا تحقق فهل التليفزيون المصرى ((المعقم)) الخالى من أى نقد يستطيع تحقيق الجذب الجماهيرى؟ التليفزيون يريد أن يلعب دور الأجهزة الأمنية، فإذا أدلى مواطن برأى معارض للرئيس سيتم تتبع الرقم والقبض عليه، فمن سيجرؤ أساسا على الاتصال وهو يستشعر بأنه مرصود، ناهيك أن بعض التقارير أشارت إلى أن لدينا ملايين من خطوط المحمول المجهولة الهوية أو تحمل أسماء غير حقيقية وبعضها بأسماء راحلين فهل يدخل ماسبيرو فى تلك اللعبة، لقد رأت صفاء الذى حل برجل النظام عصام الأمير، فقررت بعد لسعة الشوربة أن تنفخ فى الزبادى، وهدفها فقط هو تقديم شاشة مؤيدة لتقول للدولة نحن على الخط تماما، ولا تنزعجوا من برامج الهواء فلن يسمح بالحديث إلا لمن نعرفهم، وسوف يتصلون عوضا عن ذلك بالمعارف والأصدقاء الذين سيقولون بالطبع الإجابات المتفق عليها مسبقا.

هل الدولة يعنيها حقيقة الإعلام الرسمى؟ كل المؤشرات تؤكد أن سياسة الدولة تتوجه أكثر ناحية السيطرة على الفضائيات الخاصة وضمان ولائها، لأن لها مساحة أكبر لدى الجمهور، وكما ترى خفتت الأصوات التى تشاغب بعد أن تقلص الهامش المتاح وآثر عدد من مقدمى البرامج الابتعاد، كما أن الفضائيات من جانبها لم تعد ترحب أساسا لمن تلمح أن لديه ميولا لا أقول للمعارضة ولكن لأداء دور المعارضة، فصار الفضاء الخاص يقدم بالضبط الرسالة الإعلامية التى تريدها الدولة، فلماذا تبدد الدولة أموالها فى إنقاذ مريض شارف إكلينيكيا على حافة الموت.

كل ذلك ورئيسة الاتحاد مشغولة بمنع الوجبات الساخنة وتقليص برامج الهواء، فصارت الكافيتريا للبارد، وللشاشة الساقع!!

tarekelshinnawi@yahoo.com