الكذب لدى مسؤولى دول العالم الثالث يبدو أنه سلوك عام، طبائع بشرية، تنشئة اجتماعية، لذلك تأخرت هذه الدول كثيراً قبل أن تنهض، هذا إذا نهضت، لذا يَعتبر المواطن أحاديثهم دائماً «تحصيل حاصل»، يُطلق عليها «تصريحات مسؤولين»، يعنى «كلام والسلام»، توقيعاتهم يُطلق عليها «تأشيرات سياسية»، أى ليست للتنفيذ، أنشطتهم يُطلق عليها «شو إعلامى»، أى للتصوير واستهلاك الوقت، رغم ذلك نصدقهم أحياناً، بل كثيراً، لأننا نريد أن نصدقهم، نأمل أن يكونوا صادقين، رغم تكرار الكذب، اعتدنا ذلك، لا نريد أن نتعلم، لذا كان الحال هو الحال، وتستمر الدورة.
قد يخدعنا أحدهم بأن هذا المشروع أو ذاك سوف يجلب للدولة 100 مليار دولار سنوياً، نحن نصدقه، رغم أن الكلام ليس منطقياً، ويظل المسؤول يكذب، حتى يصدق نفسه فى النهاية، ويطلب الاعتراف بالمشروع، وتخصيص يوم سنوى للاحتفال، قد يزعم أحدهم أنه اخترع جهازا ما بعده ولا قبله، ويظل يكذب، حتى يصدق نفسه، ويطلب عقد مؤتمر صحفى عالمى لإعلان الكذب، قد يكذب أحدهم بأن هذا المؤتمر أو ذاك سوف يجلب أموالاً لا حصر لها، ويظل يكذب، والشعب يصدق، لا يتعظ، لا يستفيد من تجارب الماضى أبداً، لذا تستمر الدورة أيضاً.
السؤال هو: على مَن تقع المسؤولية، على المسؤول الكذاب، أم على المواطن الذى لا يريد أن يفهم، الذى لا يحاول الاستيعاب، الذى لا يتعلم من تجارب الماضى، شرعاً: المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، منطقياً: لا يجوز أن يخضع شعب ما لنفس الحالة نصف قرن أو أكثر من الزمان، إذن هى مسؤولية المواطن بالدرجة الأولى، قد تكون مسؤولية مشتركة أحياناً، إلا أن النتيجة واحدة، التخلف والتشرذم والقهر، أذكر فى المؤتمرات الصحفية كنا نعلم أن المتحدث يكذب، وهو يعلم أنه يكذب، والقارئ أو المشاهد يدرك جيداً مدى الكذب الذى أمامه، رغم ذلك فالدورة مستمرة.
فى الحالة المصرية كان هناك الكثير فى الماضى، وصلنا الفضاء، اخترعنا الذرة، صنعنا الصواريخ العابرة، اكتشفنا بحور النفط، أنهار الغاز، جبال الذهب، وصلنا تل أبيب، كل ذلك للأسف كان كذباً، حتى كانت الهزيمة، واستمرت الدورة، حتى كان الوعد بعام الرخاء 1980، الذى لم يأتِ حتى الآن، واستمرت الدورة حتى كان ما كان، مما نحن فيه الآن، لم يحدث فى دولة من دول العالم الثالث أن وقف أحد المسؤولين أمام القضاء بتهمة الكذب على الشعب، لم يحدث أن عوقب أحد المسؤولين الذى اعتاد الكذب مع سبق الإصرار.
أين تكمن المشكلة إذن، هل تنحصر فى التربية المنزلية، التى اعتاد الأب والأم فيها الكذب، فخرج الأطفال هكذا، حتى أصبحوا رجالات المستقبل، هل الأمر يتعلق بالتعليم الذى ينكر خلاله المدرس أنه يعطى دروساً خصوصية، ثم ينكر التلميذ أنه يحصل على دروس خصوصية، وكل ذلك كان كذباً، هل يتعلق الأمر بالاكتساب من الشارع فيما بعد، من مجموع المعاملات مع الناس، كل فى موقعه، هل الأمر أصبح وراثياً فى السلالات المحلية، لم يعد فى حاجة إلى اكتساب أو تعليم مهارات من هذا النوع.
مَن الجهة التى يمكن أن تكون مسؤولة عن هذه الظاهرة، لتتعهد بعلاجها أو مواجهتها، أم هى كل الجهات السابقة مجتمعة، هل هناك أمل فى العلاج، أم أن العملية قد خرجت عن السيطرة، وماذا إذا كانت تتعلق بچينات وراثية، نحن إذن أمام أمراض فى حاجة إلى علاج طويل المدى، قد يكون كيميائياً، وقد يكون نفسياً، وقد يكون الاثنين معاً، وهو الأغلب الأعم، لذا يجب أن نعترف بأننا أمام مشكلة ليست هينة، ولا يمكن الشفاء منها إلا إذا اعترفنا مقدماً بالمرض، دون خجل أو مواربة.
الغريب فى الأمر أن ينتشر مرض بهذا الشكل، أو بهذا الوصف، فى بلاد لا تعترف العقيدة الدينية فيها بذلك الشخص الكاذب: «أيكون المسلم كذاباً يا رسول الله؟، قال: لا»، أيضاً «لايزال الرجل يكذب حتى يُكتب عند الله كذابا»، أيضاً «آية المنافق ثلاث»، من بينها أنه «إذا حدَّث كذب»، أيضاً «الصدق منجاة المؤمن»، أيضاً «الصدق يؤدى إلى الجنة»، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) آية 119 سورة التوبة.
كان يجب أن نعتمد فى وظائفنا الرسمية، أو فى مكاتبنا الحكومية، «البشعة» التى اعتمدتها المجالس العرفية البدوية، للتفريق بين الكاذب وغير الكاذب، تلك القطعة الحديدية المتوهجة ناراً، ليلعقها ذلك المسؤول أو ذاك، فى أعقاب كل تصريح أو مؤتمر صحفى، فإن التصقت بلسانه كان كاذباً، وإلا فلا، مادام قَسَم اليمين الرسمية لم يأتِ بنتائج إيجابية على كل المستويات، ومادامت القوانين السائدة لم تمنع الكذب وغيره من المخالفات الأخرى، كالرشوة والاختلاس والغش وغير ذلك من أوجه الفساد، والأهم من كل ذلك مادام المسؤول لا يدرك بعد كل هذا العمر أن الكذب سوف يؤدى به فى نهاية الأمر إلى النار.
ماذا إذا حصل المسؤولون فى دول العالم الثالث على دورات تدريبية فى هذا المجال، المتعلق بالصدق، تتضمن كل محاوره، من خلال متخصصين فى علم النفس، والاجتماع، والقانون، والدين، والأخلاق، هل يمكن أن تؤتى ثمارها، هل يمكن أن يجلسوا بعد ذلك على كرسى الاعتراف، ليقر كل منهم بمجموع جرائمه، هذا المشروع العبيط، وهذا الجهاز الوهمى، وهذا المؤتمر الفاشل، وغير ذلك من خطايا، تحتاج إلى التكفير عنها الكثير، أم أن الأوان قد فات، والشعوب تستحق ما هى فيه؟!.. مجرد أسئلة للمناقشة.