الديمقراطية الخاسرة!

أحمد عبد الله السبت 30-07-2016 21:37

ملايين من البشر قُتلوا عبر التاريخ من أجل «الديمقراطية» وكل مستلزماتها من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية...، فهل تستحق كل هذه التضحيات أم أنها نظام حكم يصلح لبعض الأجناس والشعوب ولا يصلح للبعض الآخر؟ ولماذا حددت الأمم المتحدة يوم 15 من سبتمبر من كل عام للاحتفال باليوم العالمي للديمقراطية كما لو أن العالم يجب أن يسير في هذا الاتجاه؟

التاريخ يقول إن الديمقراطية تطورت بعد صراعات وحروب منذ «أثينا» اليونان قبل نحو ألفي وستمائة عام، وعندما انتصرت الديمقراطيات الغربية في الحرب العالمية الثانية على الفاشية والنازية بدأت موجات التحول إلى الديمقراطية الليبرالية تجتاح العالم من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، ولم تصمد شيوعية الاتحاد السوفيتي أمام الديمقراطية فانهار الاتحاد وانضمت بعض دويلاته إلى «أوروبا الديمقراطية»، ووصل المدّ الديمقراطي إلى الشرق الأوسط قبل وبعد ما يعرف بـ«الربيع العربي».

وبالفعل انتشرت الديمقراطية بأشكالها المختلفة، وتشير إحصاءات منظمة «فريدوم هاوس» إلى أن الديمقراطيات وصلت في عام 2007 إلى 123 دولة بينما كانت 40 فقط في عام 1972، وحسب المنتدى العالمي للديمقراطية هناك 120 دولة من 192 دولة أعضاء في الأمم المتحدة هي دول تتبع النظام الديمقراطي القائم على الانتخابات أي نحو 58%، لكن الدول التي تمارس النظام الديمقراطي الليبرالي الحقيقي، أي التي تحترم الحريات وحقوق الإنسان لا تتعدى 85 دولة، أي 38% من سكان العالم حسب فريدوم هاوس وهي منظمة أمريكية مستقلة تروج للديمقراطية حول العالم!.

يؤكد مروجو الديمقراطية أنها النظام الأفضل والأنسب لحكم الشعوب فهي تمنح الحقوق والحريات والمساواة والعدل وتصون كرامة المواطنين وتقضي على الاستبداد بالسلطة، ويضيف هؤلاء أن الإنسان جرّب كل أنواع الحكم منذ بداية المجتمعات من هيكلية قبلية إلى أبوية واشتراكية وشيوعية وفاشية ودينية ورأسمالية وديمقراطية، وكان النظام الديمقراطي هو الأفضل، كما أن اقتصاد السوق الحر مرتبط بالحرية السياسية وأن الرأسمالية تتماشى فقط مع الديمقراطية الليبرالية، والمؤرخ السياسي المعروف فرنسيس فوكوياما تنبأ في «نهاية التاريخ...» بتعميم «الديمقراطية الليبرالية» الغربية كشكل نهائي للحكم الإنساني، ودائما ما تُصور لنا الدول غير الديمقراطية والدول ذات الصبغة الدينية أنها دول مارقة!.

في المقابل قد تأتي الديمقراطية برئيس يميني أو يساري متطرف أو ذي نزعة دينية أو مستبد في الرأي أو بدون خبرة سياسية أو ثقافية، فالديمقراطية مثلا أتت بالرئيس الأمريكي بوش الابن في الحكم وأبقته رغم الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها في العراق ولم تؤدّ التظاهرات المليونية داخل أمريكا وخارجها إلى الإطاحة به، والشيء نفسه مع توني بلير، كما أن الديمقراطية حاكمت الرئيس كلينتون على مخالفاته الأخلاقية علنا أمام العالم وكلنا شاهد ما حدث في التجربة التركية.. وحتى «جماعات الضغط» بكل أنواعها تؤثر في الديمقراطيات لكنها تعمل بشكل علني.. إذن للديمقراطية الحقيقية ثمن وأيضا أنياب كما كان يقول الرئيس المصري الراحل أنور السادات، فتحاكم رئيسًا وتقيل وزيرًا أو مسؤولًا وتطبق القانون على الجميع، كما أن الحكم فيها لا يكون حكرا على دائرة القوة والنفوذ! وباختصار فإن الديمقراطية تمنح الأمل في التغيير وبالأمل تستمر الحياة...!.

لكن مع تزايد الإرهاب في العالم لم يعبأ الغرب كثيرا بفرض ديمقراطيته وتحالف مع الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية من أجل محاربة الإرهاب، ليس هذا فحسب، بل أصبح الأمن والأمان والاستقرار لشعوب دول كثيرة «ديمقراطية وغير ديمقراطية» هو الأهم، بالإضافة إلى أن النموذج الذي قدمته الدول الديمقراطية عندما تعلق الأمر بأمنها القومي من تضييق على الحريات الشخصية إلى التعذيب في المعتقلات قلل من أهمية «الديمقراطية الغربية» كنظام حكم في نظر الدول غير الديمقراطية، وربما لا يعرف البعض أن بريطانيا «أقدم الديمقراطيات» من أكثر دول العالم مراقبة لكل الاتصالات وشبكات الإنترنت، وهناك أكثر من خمسة آلاف كاميرا في لندن وحدها وغرف تحت الأرض وفوقها مجهزة لتراقب الجميع، صحيح أنها لا تستخدم إلا للضرورة الأمنية القصوى لكنك «مراقب» طول الوقت، أما أمريكا فلا تضع شعبها فقط تحت المراقبة بل العالم كله.. مرة أخرى تأثرت الحريات الشخصية من أجل الأمن والأمان!.

هناك أنظمة رفضت الديمقراطية الغربية بشكل علني كالصين وكوريا الشمالية واهتمت بأولوياتها رغم انتقادات الغرب وعقوباته، وهناك أنظمة ليست على نسق الديمقراطيات الغربية لكنها توفر أمنا أكثر ورفاهية أكثر لمواطنيها مثل بعض دول الخليج فهل هذا ما تحتاجه الشعوب؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا يفرض الغرب الديمقراطية على دول ويتجاهل أخرى تجمعه معها مصالح؟ إنها إذن لعبة المصالح وعلينا أن نحدد مصالحنا...! لماذا لا تصوت الشعوب العربية على نظام حكمها بدلا من إهدار الوقت في نظام لا يناسبها؟!

إن ما تبقى من «جمهوريات» الشرق الأوسط لم يتغير كثيرا بعد «الربيع العربي» المزعوم فلا تزال ديمقراطياتها شكلية، ليس هذا فحسب، بل إن تلك الجمهوريات مزجت ديمقراطيتها بنوع من «الأبوية» أو«السلطوية الأبوية» تدعمها شريحة من الشعب لا ترضى بالنموذج الغربي للديمقراطية ومعظمها يردد أن الأمن والأمان والاستقرار أهم لديها من الحريات، لكن لابد أن يقبل هؤلاء بأن في هذه الجمهوريات إذا ارتكب أحد كبار المسؤوليين أخطاء اقتصادية أو سياسية جسيمة فنادرا ما يحاسبه، أحد كما أن في تلك الجمهوريات أحيانا ما يعتلي بعض المناصب المهمة من لا خبرة لهم، وإذا غابت المؤسسات المستقلة والبرلمانات القوية أو فقدت دورها يتحول النظام إلى أبوي سلطوي!.

الجمهوريات الشرق أوسطية تردد أن الخوف من التطرف الديني في مجتمعات محافظة هو السبب وراء عدم تطبيق الديمقراطية بشكل واضح ويشاركها الرأي كثير من شعوبها والعالم الحر، لكن لو أرادت الحل فعليها الاهتمام بالتعليم ورفع وعي مواطنيها إن كان هذا حقا هو السبب! إن هذه الدول تنفق أموالا على مؤسسات وبرلمانات لا فائدة منها باسم الديمقراطية، فهل يمكن الحصول على مشروب صحي إذا وضعنا الديمقراطية والسلطوية والأبوية وبعض المعتقدات الدينية وفئة من الشعب المستفيد في «خلاَط»!؟ على هذه الدول أن تختار نظاما واضحا للحكم حتى تتقدم إلى الأمام!.

إن الديمقراطية الخاسرة هي تلك التي لا تحدد هويتها بوضوح فتتظاهر تحت ضغوط المعونات المالية من الدول «الديمقراطية» بأنها ديمقراطية لكنها ترواغ في التنفيذ! «الديمقراطية المزيفة كالذئب يرتدي ثياب الواعظين»!.