فشلت محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا في إسقاط نظام العدالة والتنمية، وإعادة الجمهورية التركية إلى مسارها العلماني الذي ترك مصطفى كمال أتاتورك الدولة عليه أمانة في رقبة الجيش، وربما نظر البعض إلى نجاة كرسي أردوغان من الانقلاب على أنه انتصار، لكن الحقيقة أن عدم تعرض النظام التركي لهزيمة كاملة لا يعني أنه انتصر حقا.
أسوأ خسائر تركيا جراء هذا الانقلاب هو أن جمهورية أردوغان اضطرت إلى خلع برقع الديمقراطية لتكشف عن وجهها الثيوقراطي القبيح الذي يحتقر الديمقراطية بالأساس ومن ناحية المعتقد، لكنه لا يمانع في استخدام أدواتها للوصول إلى الحكم، فإذا نازعه على هذا الحكم أحد اختزل الديمقراطية كلها في «شرعية الصناديق» التي جاءت به.
اعتقل النظام التركي أكثر من مئة وعشرين صحفيا وأغلق أكثر من مئة وثلاثين وسيلة إعلام ما بين صحف وقنوات تليفزيونية وإذاعات ووكالات أنباء، وكل ذلك في يومين فقط، ولم ينظر بأي عين إلى أن بعض هذه الوسائل ساندت النظام ضد الانقلاب أصلا، ناهيك عن أن لتركيا سجلا أسود في مسألة حصار الرأي وحبس الصحفيين ومصادرة الصحف وفرض القيود عليها.
وخسر الجيش التركي عناصر رئيسية للقوة يحتاجها أي جيش، ومن بينها صورة الجيش أمام مواطنيه، وهي صورة أمعن نظام أردوغان في تحقيرها علنا بتصوير الجنود عرايا واستعراض قتلاهم وتحريم الصلاة عليهم والسماح بجلدهم جماعيًّا في الشوارع.
كما خسر الجيش التركي قسطا كبيرا من تماسكه ومن الثقة في قادته، وكذلك من ثقة الجيش في القيادة السياسية التي يفترض أنه ينفذ بقية إرادتها بالقوة المسلحة متى لزم الأمر، فتحولت طاقة الدولة كلها إلى محاولة امتصاص آثار الانقلاب المدمرة لدرجة الانشغال عن مصالحها الاستراتيجية التي تحتاج إلى مستوى كبير من الاهتمام والمتابعة التي تليق بقوة إقليمية متدخلة في محيطها كتركيا.
ونتيجة لهذا الانشغال، ولعوامل أخرى بالتأكيد، تمكنت قوات الجيش السوري بمساعدة من سلاح الجو الروسي من قطع الممر الاستراتيجي الوحيد الرابط بين الأحياء الشرقية لمدينة حلب وريفها، لتقع المناطق الخاضعة للمعارضة التي تدعمها تركيا إما في قبضة الجيش السوري أو تحت حصاره المحكم.
وبهذه الخطوة تحديدا تخسر تركيا نقطة ارتكازها في سوريا، وبوابتها إلى الشبكة الحضرية التي عادت قوات الأسد إلى السيطرة عليها، وبدلا من أن يؤدي سقوط حلب في أيدي المعارضة إلى سقوط دمشق، أدت عودة سيطرة الأسد على حلب إلى تقوية دمشق، سواء من الناحية العسكرية أو السياسية.
وعلى عكس ما تبثه الدعايات الإخوانية التي تنظر إلى الاقتصاد التركي باعتباره الاقتصاد الذي لا يقهر، فقد كان الاقتصاد التركي مأزوما بنسبة فائقة من الديون تجاوزت الحد الآمن، وبتراجع صريح في نسب التنمية وفي ثقة المؤسسات الدولية في فرص وإمكانيات الاستثمار في تركيا خلال العامين السابقين على الانقلاب الذي جاء ليزيد الطين بلة.
ويجتمع كل ما سبق مع اهتزاز صورة تركيا أمام حلفائها كدولة عضو في حلف شمال الأطلسي، وكدولة تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بينما تتحول تركيا إلى حرج معنوي وعبء سياسي وعسكري على هؤلاء الحلفاء.
ربما أثارت هذه القائمة حفيظة من يعتبرون أردوغان أمير المؤمنين غير المتوج، لكن الحقيقة أن الانقلاب الفاشل قضى أيضا بالموت السياسي الكامل لمشروع الإمارة كلها، وأجبرها على اتخاذ خطوات احترازية واضحة لحماية البقية الباقية من هذا المشروع، مثل إعادة تأهيل جبهة النصرة التي تدعمها تركيا في سوريا بفصلها عن تنظيم القاعدة وحل بيعتها له.
وخلاصة ما سبق، وهو سرد مباشر للأحداث لم أتدخل فيه بالتحليل، تشير إلى أن تركيا – دولة ونظامًا – قد خسرت كثيرًا بسبب محاولة الانقلاب الذي دفعها على رقعة الشطرنج إلى مواقع دفاعية محصورة يعرف أي عاقل أن الحفاظ عليها للأبد مستحيل، وهذا هو التعريف الأوضح لظاهرة الوفاة السياسية التي تصدر بانهيار فرص نجاح المشروعات السياسية لا بسقوط صورها ورموزها عن الكراسي.