لم يخرج الإعلاميون وكدابو الزفة من الساسة و«الخبراء» الأمريكان على شاشات الـ«سي إن إن» الأمريكية وزميلاتها، للهرتلة بالحديث الهزلي عن المؤامرات الكونية، وتحالف قوى الشر الألمانية واليابانية ضد «شعب الولايات المتحدة الأمريكية» عام 1983م، عندما صُدمّ الأخير، بخُسارة أبنائه للمسابقة الدولية لعلوم الرياضيات والفيزياء، أمام أقرانهم طلاب الثانوي الألمان واليابانيين.. بل تشكلت «لجنة حكومية» موسعة، تضم علماء في التربية ورجال تعليم ميدانيين، انتهت بعد عام كامل إلى تقرير بعنوان «أمة في خطر»، يحوي تقييماً شاملاً لمكونات ومحتوى النظام التعليمي، مصحوباً بالتوصيات اللازمة تحديثاً للمناهج ووسائل وطرق التدريس، وهو ما تم تنفيذه حفاظاً على القوة الأمريكية المستندة على «التعليم» المتطور دوماً، وما يلازمه من اكتشافات نتاجاً للبحث العلمي.. شبيها بهذا كان قد حدث عندما ضربت الصدمة الولايات المتحدة، بوصول الاتحاد السوفيتي آنذاك (روسيا الاتحادية حلت محله)، إلى الفضاء، بإطلاق أول قمر صناعي سوفيتي «سبوتنك – 1»، عام 1957.. انزعج الأمريكان شعباً وحكومة إلى درجة الرعب من هذا السبق العلمي، وتحولت المناقشات بسرعة إلى إدانة التعليم الأمريكي واتهامه بالقصور والفشل، وهو ما أسفر عن ميلاد «وكالة ناسا لأبحاث الفضاء»، بهدف اللحاق سريعاً بالسوفيت فضائيا، ثم التفوق عليهم.
إذا تركنا الأمريكان والروس والألمان واليابانيين ومعهم كوريا وإسرائيل وكل الأمم المتقدمة، ودور «التعليم» في تفوقهم وتقدمهم جميعا، وعدنا إلى مصر.. يخبرنا التاريخ البعيد بأن «أوروبا» أوفدت أبناءها لتلقي علوم الفلك والطب والهندسة والفلسفة وغيرها على يد علمائنا الأقدمين، بما يعني بداهةً أن «التعليم» كان هو أساس الحضارة الفرعونية، التي مازالت معالمها حاضرة، ويحار العلماء المُحدثون في فهم بعض ألغازها العلمية.. وفي بدايات القرن الـ 19، تولي «محمدعلي الكبير» حكم مصر (1805-1848)، وكان حالها – كما هي الآن- في وهن وضعف واضمحلال، أي أشباه أو أشلاء دولة.. راودته وقتها الأحلام بصناعة دولة عصرية وإمبراطورية يستقل بها عن الدولة العثمانية.. أدرك الرجل أن «التعليم المدني»، هو الحل.. كان المُتاح وقتها «تعليم ديني» فقط غير منظم بالكتاتيب والأزهر الشريف.. بادر «محمد علي» بإرسال طلاب نابهين إلى أوروبا لدراسة العلوم المختلفة، مع تشجيع حركة الترجمة، وعند عودتهم استعان بهم في إنشاء «المدارس العليا» في الطب والإدارة والهندسة والعسكرية وغيرها، مماثلة للكليات الجامعية، ثم «المدارس التجهيزية» المناظرة للثانوية، ولاحقا، استحداث «مكاتب المبتديان»، أي المدارس الابتدائية.. ليكون «محمد علي» هوالأب المؤسس لـ«نظام التعليم الحديث» القائم حالياً على غرار التعليم الفرنسي، واستطاع به أن يقيم دولته العصرية القوية التي تمناها، بما يعني حاجتنا إلى ثورة لتحديث نظامنا التعليمي، شبيهة بما حدث في أمريكا عامي 1957، و1983، وتجربة محمد على الكبير، شريطة مراعاة واقعنا والتغيرات المعاصرة، لكن المؤسف أن «الفتور» نحو قضية التعليم وتطويره، بدا غالباً على الرئيس عبدالفتاح السيسي في حواره مع الإعلامى أسامة كمال، مؤخراً، فيما الحماس العالي تستأثر به مشروعاته في الطرق والكباري والأنفاق والثروة السمكية مع كامل التقدير لها، إلا أنها لا تغني عن تطوير «التعليم»، فهو الحل والعماد لأي تنمية ونهضة.
لقد سلطت «تسريبات امتحانات الثانوية العامة»، ثم نتائجها، الضوء ساطعاً على «انهيار تعليمي» صارخ وفاضح، لم يكن مفاجئاً.. بل معلوماً ومؤكداً فيما أظهره «ترتيبنا» على مؤشر التنافسية التعليمي، في ذيل القائمة برقم 139 من بين 140 دولة، متفوقين على دولة غينيا التي جاءت في المركز الأخير، وهي مكانة بلغناها بجدارة نتاجاً للتخبط الحاكم لسياسات وزارة التربية والتعليم، منذ تولاها الدكتور فتحي سرور في منتصف الثمانينيات.. فقد راح ومن بعده الدكتور حسين كامل بهاء الدين، وخلفائهم يديرون هذه الوزارة المهمة بعشوائية غاشمة على طريقة سمك – لبن – تمر هندي، وصار «شخص الوزير» هو صانع السياسات والقرارات التعليمية، بديلاً للعمل المؤسسي المُخطط والمدروس، إعلاءً للعشوائية الغاشمة أحيانا والتخبط والعبث في إدارة المؤسسة التعليمية بما تمثله من أهمية وخطورة لنهوض البلاد أو سقوطها في الفشل الذي يتمدد ويتوسع.
نسأل الله السلامة لمصر.