«جزى الله الشدائد كل خير، عرفت بها صديقي من عدوي».. ربما يردد الرئيس التركى رجب طيب أردوغان هذه الحكمة كثيرا في الأيام القليلة القادمة، فالتعليقات الفورية على خبر انقلاب الجيش على شرعية الرئيس المنتخب من جانب عدد من الدول الحليفة لأردوغان جاءت مخيبة لآماله، حيث بدت غير حاسمة ومتمهلة، ولا تدين الانقلاب، وبدا الأمر كأن واشنطن وموسكو وبعض العواصم الغربية الأخرى كانت على معرفة بهذه الخطوة.
فالتعليقات لم تحمل معنى الاندهاش أو المفاجأة، ولكنها كانت هادئة لدرجة البرود، وتصريحات وزيرى الخارجية الأمريكى والروسى كانت تتعلق بالاستقرار وعدم إراقة الدماء، ولم يتطرق أيهما لإدانة الانقلاب العسكرى، فدعا وزير الخارجية الروسى «سيرجى لافروف» لتجنب إسالة الدماء بتركيا وحل مشاكلها في إطار الدستور، أما نظيره الأمريكى جون كيري، الذي تواجد في موسكو حينذاك، فقال ليس لديه علم بمجريات الأمور بتركيا حتى الآن ويتمنى السلام والاستقرار لها.
ولم يأت تعليق البيت الأبيض إلا متأخرا وبعدما تبين أن اتجاه الريح في صالح أردوغان وأنه استعاد السيطرة على البلاد، حيث أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما تحدث مع وزير خارجيته جون كيري واتفقا على ضرورة أن تؤيد كل الأطراف في تركيا الحكومة «المنتخبة ديمقراطيا»، وبهذا أعطى سيد البيت الأبيض الإشارة، وتوالت تصريحات زعماء الدول الأوروبية مؤيدة للشرعية.
أعتقد أن الرئيس التركى كان يعلم علم اليقين بأن هناك قلاقل في الجيش، وأن المؤسسة العسكرية غير راضية عن محاولاته لتقليص نفوذها وسلطاتها في الدولة وجعلها تحت المراقبة والمحاسبة، وكانت هناك تسريبات عن اتجاه أردوغان إلى عزل نحو أربعمائة ضابط وإحالتهم إلى التقاعد، بالإضافة إلى المشاكل الداخلية الأخرى: جماعة فتح الله جولن النافذة في مؤسسات الدولة المختلفة والسيادية، الأكراد، نشطاء حقوق الإنسان وحرية التعبير، أحزاب المعارضة التي تتهمه بالتضييق عليها في الممارسة الديمقراطية لصالح نواب حزب «العدالة والتنمية» الذين يمثلون الأغلبية في البرلمان، وهو ما جعل أردوغان يسارع في انتهاج سياسة صفر مشاكل بالنسبة للخارج، بعد تزايد الأعداء وتقلص الحلفاء نتيجة سياساته الخارجية ولمزيد من التفاصيل يمكن للقارىء العودة إلى مقالى المنشور يوم 9 يوليو الماضى.
أسرع أردوغان في الفترة الأخيرة في تقديم تنازلات هنا وهناك خارجيا حتى يعطى لنفسه فرصة لترتيب البيت من الداخل ومواجهة الانقلاب وإخراجه بهذه الصورة.
كل الشواهد تؤكد أن أردوغان كان على علم تام بموعد الانقلاب، ولم يكن من مصلحته إجهاضه قبل موعده، بل العكس، فهو فرصته للقيام بأكبر عملية تطهير فى الجيش- المؤسسة التي لايثق في ولاءها له حتى الآن،والتنكيل بمؤيدى غريمه الداعية فتح الله جولن في مختلف مؤسسات الدولة، الانقلاب العسكرى سبب كافٍ للعقاب، والعقاب القاسى الذي لن يجد من يختلف حوله في الداخل والخارج.
كانت هناك معلومات استخباراتبة تفصيلية عن موعد الانقلاب وتفاصيل تحركات المجموعات المتمردة التي أطلقت على نفسها: جماعة السلام، وهى المعروفة بالكيان الموازى الموالية لفتح الله جولن والتى تم تسريب إحالة عدد منهم للتقاعد، ويؤكد ذلك الهليكوبتر التابعة لقوات الانقلاب التي ضربت الفندق الذي كان أردوغان يقضى فيه إجازته في مرمريس، غادره الرئيس إلى مكان آمن تم الإعداد له مسبقا لا تعلم القوات الانقلابية عنه شيئا، فأردوغان كان يسبق قوات الانقلاب دائما بخطوة.
دعم الانقلاب شعبية أردوغان في الشارع التركى الذي تحرك من منطلق خوفه على تجربته الديمقراطية ورفضه العودة لحكم المؤسسة العسكرية وتاريخ الانقلابات العسكرية المتكررة التي شهدتها البلاد من قبل، وتم رفع العلم التركى من قبل المؤيدين لحزبه العدالة والتنمية وعامة الشعب، فلم نشهد تركيا واحدا يرفع صورة أردوغان في أي تظاهرة بثتها وكالات الأنباء التركية والعالمية، كان هناك إجماع شعبى على الوقوف ضد الانقلاب العسكرى.
بعد أن استتب الأمر، وتم التأكد من سيطرة قوات الجيش الموالية لأردوغان مدعومة من الشرطة والشعب على مجريات الأمور، بدأت حمله اعتقالات واسعة لمنفذى الانقلاب والمشتبه فيهم من الجيش، كما تم توقيف أكثر من 2700 قاضٍ عن العمل بتهمة الموالاة لجولن والانقلاب.
نعم الانقلاب فشل، ولكنه كان بمثابة طلقة رصاص أصابت صورة الجيش التركى في مقتل، وتوابعه ستكون كثيرة، إنه سلاح ذو حدين يمكن أن يستخدمه أردوغان لصالحه أو يكون ضده.. وللحديث بقية ستكتبها الأيام القادمة.
ektebly@hotmail.com