الآثار الجانبية للاستعمار

إبراهيم الجارحي السبت 16-07-2016 21:53

ألقى الكوميديان الأسطوري الكندي من أصل، هندي راسل بيترز، نكتة في عرض من عروضه الساخرة عن الشعب الهندي الذي استغرق أربعين سنة قبل أن يعيد اسم مومباي إلى المدينة التي أطلق عليها الاحتلال الإنجليزي اسم بومباي خلال سنوات الاحتلال.

انتظر الهنود حتى عام 1995 ليغيروا الاسم، ويقول بيترز إن الهنود لم يصدقوا أن الإنجليز جادون في منح الهند استقلالها، وانتظروا ربما غير الإنجليز رأيهم وعادوا إلى احتلال بلادهم، وعندما تيقنوا أنهم قد حلوا عنها نهائيا، أعادوا اسم المدينة إلى اسمها السنسكريتي ثم لحقوا بالمستعمر في عقر داره.

لن تجد اليوم في لندن محاسبا لا تعود جذوره إلى شبه الجزيرة الهندية، إما أن يكون هنديا أو باكستانيا، ولن تجد في طول إنجلترا وعرضها مهندس برمجيات أو فني تكنولوجيا معلومات أو الحاسبات إلا وكان مهاجرا من الهند، أو كان من أبناء الجيل الثاني أو الثالث لمهاجرين زحفوا بالملايين وراء المستعمر الذي ظن أنه سيترك مستعمراته ويعود إلى بلاده الباردة دون أن يسدد شيئا من تركة الاستعمار الأخلاقية والأدبية.

الحقيقة التي تفوق نكتة راسل بيترز طرافة هي أن المستعمر الأوروبي عندما اكتفى من نهب ثروات العالم الفقير في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعاد إلى بلاده على مراحل امتدت لعقدين بعد الحرب العالمية الثانية، اكتشف أنه لا يملك الثروة البشرية الكافية لإدارة ما نهبه من خيرات، خاصة مع دخول أوروبا ثورتها التصنيعية الثانية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

لم يكن أمام أوروبا إلا أن تلجأ إلى استقبال أعداد هائلة من المهاجرين، ولم تكن مصادفة أن تنتمي الحصة الأكبر من المهاجرين في كل دولة استعمارية إلى مستعمراتها السابقة.

وهاجر الهنود والباكستان وأبناء المستعمرات الإنجليزية في آسيا وأفريقيا إلى بريطانيا، وهاجر المغاربة والجزائريون والتوانسة وأبناء المستعمرات الفرنسية في أفريقيا وآسيا إلى فرنسا، بينما كانت ألمانيا ملجأ لكل الجنسيات نظرا لوضعها الخاص بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة من الناحية السكانية.

واستمر توافد الأجانب بسلاسة وترحاب على أوروبا طوال عقدي الثورة التصنيعية الثانية، وحتى منتصف الثمانينيات عندما بدأت التكنولوجيا تحل محل الميكنة، وتناقصت الحاجة تدريجيا للعمالة البشرية، وفي نفس الوقت كانت الدول المصدرة لهذه العمالة قد دخلت في طور الانفجار السكاني، وأصبحت طاردة للسكان أكثر مما كانت عليه قبل سنوات.

ومع تراجع حاجة أوروبا للمهاجرين، وتزايد حاجة المهاجرين للهجرة إلى أوروبا، ومع إنشاء الاتحاد الأوروبي الذي فتح الطريق لتبادل الثروة البشرية داخل أوروبا، انتهى موسم الهجرة إلى الشمال، وبدأت أوروبا تغلق سواحلها وأبوابها أمام المهاجرين.

وظهرت في هذه الفترة موجات الهجرة غير الشرعية التي حملت لأوروبا بذورا غير منتقاة أنبتتها حروب الخليج وأفغانستان والبلقان والحروب الاقتصادية والسياسية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية.. وبالطبع، من الثمار التقليدية للقهر السياسي والديني والاجتماعي في الشرق الأوسط.

وانضمت هذه الموجات إلى قواعدها الت سبقتها إلى القارة العجوز، وتشكلت البيئة المناسبة للعداء مع المجتمع الأوروبي على أسس بعضها اقتصادي وبعضها سياسي وأكثرها ديني.

ولعل ما تحصده أوروبا هذه الأيام من أعمال إرهابية ليس سوى بداية لموسم حصاد مرير ستجمع فيه أوروبا ما زرعته في سنوات الاستعمار، وما زرعته بعد انتهاء الاستعمار، وستجمع فيه ثمن سياساتها، وضريبة خطاياها وخطايانا معا.

المسألة كما شرحت في الفقرات السابقة أقرب إلى حرب ديموجرافية منها إلى حرب أيديولوجية أو عقائدية، ولا تخرج عن الإطار التقليدي لصراع البشر على الموارد.. فعندما كانت الموارد في المستعمرات زحف إليها المستعمر الأوروبي، وعندما انتقلت هذه الموارد إلى أوروبا زحفت وراءها شعوب المستعمرات.

ستهزم أوروبا بالقوة السكانية للمهاجرين، إن عاجلا أم آجلا، ولن تكون هذه الهزيمة لصالح المسلمين وحدهم، وإنما لصالح كل سلالة تفلح في سد الفراغات الديموجرافية في أوروبا أسرع من غيرها، وربما طالت هذه المعركة قليلا ببسالة القوميين الجدد الذين يصارعون هذا الابتلاع، لكنهم في النهاية مهزومون.. ببساطة لأنهم يواجهون خصما متخصصا في التكاثر.