فى سنة 1808 قام أحد مُلاحظى تربية الماشية البلجيك ويُدعى «جورج كولى» بتسجيل أول حالة لهجين تمخضت عنه سلالة أبقار عجيبة الضخامة، نتجت من تناسل قسرى بين بقرة بلجيكية رشيقة وثور إنجليزى ربعة (من نوع الـشورت هورن)، وكان الوليد الأول عجلا غير مسبوق الحجم والشكل، فهو فى ضعف حجم أى عجلٍ عادىٍّ وليد، وعضلاته نامية بشكل لافت تحت جلده المشدود، المُغطى بشعر رمادى خفيف ضارب إلى الزرقة. ومن هذه الزرقة أُخِذت تسمية السلالة «الثيران البلجيكية الزرقاء» Belgian Blue bulls، برغم أن ألوانها تنوعت وتعددت بعد ذلك. وكانت تلك بداية الفتنة!
سنوات قلائل وصارت تلك السلالة صرعة أوروبا التى كانت استعمارية لاتزال، فقد اكتشف جزاروها أن تحت جلودها كنزًا من اللحم الأحمر الخالص الذى لا يخالطه أى دهن، فى صورة عضلات يناهز وزنها طنًّا، وكل عضلة مُحددة وواضحة المعالِم، توافِر فرصة لـ «قطعيات ممتازة» من لحم ثبت عند تقديمه فى المطاعم الفاخرة، أنه خلاب المنظر فى الأطباق، طرى وهش وشهى المذاق عند المضغ، وسريع النضج على نار هادئة قبل ذلك. هكذا بسطت فتنة الثيران البلجيكية الزرقاء أرضية تمددت عليها، واستفحلت، متلازمة عبادة الضخامة والانخطاف بالصورة، بلا تأمل لأية احتمالات سلبية فى ثنايا الضخامة، أو زيف ماثل وراء خُيلاء الصورة. وبالطبع كان تفقُّد أحوال هذا البقر، فى هذه الصناعة اللاحمة، مما لا يتوقف أمامه روادها الأوروبيون، حتى بعض العلماء، فبعد أن كان التناسل الانتقائى للحصول على هذه السلالة يتم عنوة، بدفع الذكور إلى الإناث فى الحظائر وخارج مواسم الفطرة، قام البروفيسور «هانزت» ــ أحد رواد الإخصاب الصناعى فى خمسينيات القرن الماضى ــ بتطبيق خبرته البحثية للحصول على أبقار منتقاة من هذا النوع، دون أى اعتبار لمشاعر الإناث المُنتزَعة بويضاتهن غصباً، والذكور المحصودة حيامنهم بالتهييج الزور!
العلم فى الحظائر
دخل العِلم الأوروبى على خط الصرعة، ودخلت أبقار الصرعة إلى الولايات المتحدة عام 1978، وفى الولايات المتحدة دخل العِلم ساحة هذه الأبقار، وكان الدخول على يد «نك تيوتى» مربى الماشية الكندى المُهاجر إلى غرب تكساس، الذى نجح فى اجتذاب اهتمام العلماء من الجامعات الأمريكية المحيطة بحظائره. بعدها، لم ينقطع العِلم عن التواجد فى مراتع ومرابع قطعان اللحم الأحمر الخالص هذه! ومع التطور العلمى فى مجالات بيولوجيا التناسل والجينات والهندسة الوراثية وتغذية الحيوان، راحت أسرار بزوغ وتفاقم ظاهرة الثيران «الزرقاء» تتكشف، وتتمادى. ثبت أن الظهور الأول للثور البلجيكى الأزرق، سليل الأم البلجيكية الرشيقة والأب الإنجليزى الربعة، نتج عن طفرة وراثية أطلقت تكوينا مفرطا لبروتين تشكيل العضلات دون دهون، مع بقاء نمو العظام فى حدود عادية. ولم تُعرف خبايا هذه الطفرة إلا بعد استكمال الصورة علميا، والتى تطلبت عقودا لاستقرارها. وكانت كلمة السر فى كل ذلك: «الميوستاتين» myostatin، (حيث myo تعنى عضلة وstatin تعنى إيقاف)!
من منطوق الكلمة، نفهم أن مادة الميوستاتين تعمل على كبح أو إيقاف نمو العضلات، وبما أن نمو عضلات الثيران البلجيكية حدث فيه العكس، فإن المعنى ينصرف إلى حدثٍ مضادٍ أبطل مفعول هذه المادة الكابحة لنمو العضلات، وهذا ما كان منذ البداية، فالتناسل الانتقائى الأول أحدث طفرة أزالت أو أبطلت عمل الجين المسؤول عن توليد هرمون، أو بروتين، أو مادة الميوستاتين فى جسم الجنين الهجين، ومن ثم انطلقت عضلاته تنمو دون كابح، ودون تناسُب مع حجم وكثافة العظام التى ظلت ضمن مستواها العادى، وصار الجنين عِجلا، ثم ثورا (أو بقرة)، ويحمل فى كل المراحل كتلةً ضخمةً من العضلات على عظام عادية. وبالغوص فى دقائق الأمور، تبين أن تضخم كتل العضلات ليس سببه تضخم أليافها، بل زيادة الخلايا، ومن ثم زيادة الألياف فى كل عضلة. لهذا راجت تسمية هذه الأبقار «مزدوجة العضلات»، على اعتبار أن زيادة حجم عضلاتها تضاعف بتضاعف ألياف كل عضلة، مع بقاء الألياف على سمكها الطبيعى، وإلى ذلك يُرجِعون نعومة وطراوة وهشاشة وسرعة نضج هذا اللحم، برغم غياب الدهون التى اعتادها الناس توشِّى اللحم العادى، وتعطيه مظهرا مرمريا تُعزى إليه النعومة والطراوة! وكانت تلك فتنة مُضافة!
من الميلاد حتى الموت أو الذبح
بدا الأمر تميُّزا فاخرا للأثرياء الذين يقصدون المطاعم الفخمة التى تقدم هذا اللحم فى عواصم الدنيا المترفة، وهو مظهر خبأ وراءه عواقب وخيمة، نرجئها إلى حين، ونلتفت أولا إلى أصحاب الشأن، حَمَلة هذه الأثقال الجٍسام من ذلك اللحم «الفاخِر»، بدْءاً من الأجنة، فالعجول، فالثيران الآباء، والأبقار الأمهات. تراجيديا، مأساة متواصلة المرارة من الولادة حتى الموت، أو الذبح، وقد ظن البشر المتربحون من هذه التراجيديا والمتلذذون بها أنهم ناجون من عواقبها، لكن هيهات، ففى الأمر فظاعة..
منذ البداية، وبينما العجل البلجيكى الأزرق المسكين فى بطن أمه، يتغول نمو عضلاته ذات اللحم الأحمر على نمو مفاصله وكفاءة قلبه ورئتيه، ونظرا لضخامة حجمه مع كبسة اللحم على قناة الولادة لدى أمه، والتى تصير نفقا ضيقا خانقا، لا يولد ولادة طبيعية إلا وتكون عَسِرة، لا ينجو بحياته منها غير القليل، وإذا نجا واحدهم فإنه لا يقوى على الوقوف إلا متأخرا، وعندما يستطيع الوقوف لا يمشى إلا قليلا من ثقل ما يحمل من لحم على عظامه الضعيفة بالمقارنة. ولأن نصيب لسانه من النمو يكون كبيرا كما سائر عضلاته، فإن الصغير لا يستطيع أن ينعم برضاعة طبيعية من ضرع أمه، فلسانه المتضخم يُعيقه عن الالتقام. بطيئا ينمو جنسيا، وبطيئا يصل إلى البلوغ، وبرغم ضخامة خصيتيه يكون ماء ذكورته شحيحا وحيامنه واهنة، وعندما تستيقظ حواسه على نداء الخصب فى مواسم التزاوج عند الأنثى، يعجز عن حمل نفسه بالغة الثقل للقيام بواجب الزوجية، إلا باقتحام أيادى ورافعات البشر، تعاونه فى هذه اللحظة الحرجة، فتأتى النشوة معجونة بالقهر والمهانة. وإذا تم عبور كل هذه المراحل بكل ذلك الحرَج، تأتى آلام الحامل عند الولادة، والتى لا تكون إلا عُسرا وعذابا قاتلين فى أكثر الحالات، للأم، أوللجنين، أو لهما معا. لكن مستثمرى المواشى لكل تلك الخسائر لا يستسلمون، وإن كانوا لا يتعاطفون مع آلام هذه الكائنات البكماء؟
لاستبعاد كل ما سبق من خسائر، قام مستثمرو الأبقار الزرقاء بتحويلها إلى «مصانع لحم حية»، وهذا ما كانت توصف به كِنايةً وزهواً، وهاهى تتحول بالفعل إلى مصانع وكأنها آلات لا حياة فيها، فصعوبة اللقاء الطبيعى الحميم لإرواء نداء التزاوج عندها، عوَّضها المستثمرون بوسائل الإخصاب الصناعى الفظة والمُهينة حتى للبقر، وعسر الولادات الطبيعية للنسل المأمول جرى تحاشيه بجراحات قيصرية وحشية، أما عجز الوليد عن الرضاعة من ضرع أمه فاستبدلوه بالإرضاع الصناعى من «ببرونة»، وتظل التغذية بعد ذلك مدعومة بتدخل البشر، وكأن هذه الكائنات فى ملاجئ للمُعاقين، لكنهم معاقون يجرى تسمينهم للذبح، فنهم عضلات اللحم الأحمر الخالص للنمو تحت الجلود، يتطلب إضافات بروتينية لدعم تكوين بروتين عضلات هذه الأبقار، وليس معروفا كنه هذه الإضافات.. مسحوق نفايات لحم حيوانى؟ دم ذبائح السلخانات؟ إضافات هرمونية؟ الله أعلم، والله يُجزى المُسيئين؟!
وقت لدفع الثمن
لا أشك فى ذلك: يُجزى الله المسيئين، فما من إساءة لخلق الله حتى لو كانت جمادات من مياه أو تراب أو هواء أو حجر، إلا ويدفع البشر ثمنها فى الدنيا قبل الآخرة. فمع تطور علوم دراسات الجدوى بأبعادها المختلفة، اقتصادية وبيئية وصحية وغيرها، ثبت أن الاستثمار فى هذا اللحم الأحمر الخالص الطرى الهش الشهى الفاخر، إنما فيه خسرانٌ مُبين، بالمقاييس الاقتصادية على الأقل، فالرضاعة الصناعية للعجول الوليدة والإخصاب الصناعى للأزواج البالغين والجراحات القيصرية لتوليد الأمهات، كل هذه ذات كلفة اقتصادية عالية محسوبة، تضاف إليها تكاليف الرعاية البيطرية لعجولٍ ضعيفة القلوب المتضخمة والرئات المكبوسة والمفاصل الهشة التى لا تعين على المشى، وآباءٍ محدودى الحركة لثقل لحومهم على هياكلهم الواهنة، وأمهاتٍ يعانين طويلا بعد جراحات الولادات القيصرية الخشنة فيمكثن راقدات على جنوبهن بعيدا عن جُرح التوليد القاسى الكبير. ومن ألطاف الله فى أقداره، أن هذه الظاهرة الطافرة لو كانت تُركت لشأنها الطبيعى دون تدخل من الطمع والغرور البشريين، لأنهت نفسها بنفسها ولم تستمر أو تستفحل، وهذا أمر معروف فى التزاوج المارق عبر الأنواع، فحتى لو أثمر، يكون نسله عقيما، أو يكثر إجهاض أجنته، ثم إن هناك تدبيرا عجيبا للخالق فى خلقه، يتجسد فى بنية هذه الكائنات الطافرة، فتضخم العضلات بتضاعف خلايا أنسجتها لا تقابله زيادة موازية فى مولدات الطاقة بهذه الخلايا أو «الميتوكوندريا»، فعددها يكون أقل فى الخلايا الزائدة، وقدراتها أضعف لمحدودية معدل الأكسدة فيها، وهو ما يثقل كاهل المربين بنفقات إضافية لتعويض خمول مصانع اللحم الحى هذه، من تدفئة وتغذية كثيفة وعِمالة إضافية ومُنشطات وإشراف بيطرى متواصل. فكأن العادل يقول لمن يتعسفون بالفطرة فى خلقه: تتربحون من ذلك؟ حسنا، ادفعوا، وستخسرون أكثر مما تكسِبون!
ادفعوا واخسروا، يقولها منطق الحق والعدل، وهيهات أن يصغى لها المفتونون بالضخامة والفخامة حتى من العلماء، فتقدم علوم الهندسة الوراثية وضع بين أيادى العابثين أو الواهمين أو الطامعين أو الماكرين طرقًا مذهلة لإحداث طفرة حذف جين الميوستاتين، بإيلاج عامل مُبطِل على متن فيروس أو بشطب الجين أو قصه كيميائيا، أو التنغيص عليه بجين مضاد، ومن هذا التلاعب ظهرت فى المختبرات كلاب صيد عملاقة، ودجاج هائل، وفئران من الوزن الثقيل، لكنها جميعا تفتقر إلى ما يخفيه تجارها ومروجوها، فهى ما بين دجاج ثقيل راقد طوال الوقت، وكلاب برغم ضخامتها خاملة وخوَّافة، وفئران سمينة بطيئة تستسلم برخاوة لمفترسيها من القطط والبوم. أما المُفزع الجديد، فهو دخول هذه الصرعة فى تجارب للحصول على رياضيين خارج المنافسة بقوة عضلاتهم، وأتباع عماليق لغايات يستحيل أن تكون شريفة. لكن رحمة الله تظل غالبة، فكل هذا العبث الجينى، لم يفرز غير ضخامة لا ارتباط فيها بقوة أو نباهة أو عيشٍ مديد.
مادة نفيسة ويل لمن يهدرها
أمَّا عن الجدوى البيئية، والتى تخص الجميع فى أى مجتمع بشرى يشارك أو يتفرج على هذه الحظائر المجازر، فهى خسارة يدفع ثمنها الجميع لو كانوا يعلمون، فتغذية مصانع اللحم الأحمر الخالص الحية هذه تمثل عبئا على الماء والهواء والتربة، فإنتاج 100 جرام من اللحم (العادى) يتطلب أكثر من 3 كيلوجرامات حبوبا وعلفا، و200 لتر ماء للشرب ورى محاصيل يأكلها الحيوان، وهذه يلزمها 22 مترا مربعا من الأرض الزراعية لأسابيع أو شهور. ثم، يأتى ما يتجشؤه الحيوان وينفثه من غاز الميثان الملوث للهواء والذى يُسخِّن الجو بأكثر من 25 ضعف ما يفعله ثانى أكسيد الكربون، وهو قرين بتربية الماشية، وأى ماشية هنا؟ إنها مصانع حية عملاقة.. تنفث الكثير، لأنها تجتر الكثير، وتحرق الكثير، وتحترق بكل هذا الكثير. فماذا عن المُستهلكين المنتفخين بالزهو الخيلائى والاستطعام النهِم لهذا اللحم الأحمر الخالص، الطرى، الهش، شهى المذاق، ذى القطعيات «الممتازة»؟
الإجابة: ابحث عن الدم؟ فالدم مادة نفيسة وويل لمن يهدرها بغيا أو غطرسة أو خيلاء أو لهوا أو مُتعة شيطانية؟ هكذا تقول أحدث أبحاث السرطان التى تنسب إلى الحديد الموجود فى اللحم Heme iron، وتحديدا فى اللحم الأحمر المدين بحمرته الصارخة لحديد الدم هذا، زيادة عامل الخطورة فى الإصابة بأمراض مزمنة وسرطانات تكاد لا تستثنى عضوا من أعضاء الجسد البشرى، من المخ حتى البروستاتا، والأشهر بينها هو سرطان القولون والمستقيم، لأن كثرة هذا الحديد الدموى فى الطعام تتحول عبر الطبخ وبعض بكتيريا الأمعاء إلى مواد ضارة للخلايا تؤدى للإصابة بالسرطان. وهو ما صرح به الدكتور مارجى مكولوغ اختصاصى الوبائيات الغذائية بالجمعية الأمريكية للسرطان. والذى ينصح الناس الذين يتناولون أكثر من 90 جراما من اللحم المطهو يوميا بأن يهبطوا بهذا المعدل، وهو يتكلم عن اللحم العادى وعن اللحوم المصنعة كالهامبرجر والهوت دوج والسجق واللانشون، فما بالنا بلحم الثيران الزرقاء خالصة الحمرة، المشبعة بحديد الدم المُنذر بسرطان القولون والمستقيم. بل إن هناك أبحاثا ترجح وجود علاقة بين حديد الدم هذا فى اللحوم الحمراء وبين سرطانات الرئة والمرىء والمعدة والبنكرياس وبطانة الرحم!.
وإذا صعدنا بعد ذلك، سنواجَه بدراسة شملت أكثر من 35 ألف امرأة بريطانية ثبت منها أن التهام كمية قليلة من اللحم الأحمر قدرها 60 جراما من اللحوم الحمراء، أو ثلاثون جراما من اللحوم المصنعة، يوميا، يترافق بزيادة مخاطر الإصابة بسرطان الثدى، وبرغم أن البحث كان يشير إلى أن الخطر يزيد لدى النساء بعد ما يسمى«سن اليأس» (وأتصور أنها ليست كذلك أبدا، فهى سن جميلة للمرأة فى أوج نضجها، على الأقل لجانب تحرُّرها من أعباء الحيض والحمل والولادة)، فإن دراسة أخرى لم تستبعد الخطر لدى الإناث قبل هذه السن، هؤلاء اللائى يتناولن 90 جراما من اللحم الأحمر أو اللحوم المصنعة يوميا، ويكون خطر الإصابة هنا ممثلا بسرطان ثدى نوعى يتطلب هرمون الأستروجين لينمو ويتضخم. وفى الحالتين كلتاهما، يظل واضحا أن الخطورة تكون أكبر مع ما يكتنزه لحم ثيراننا الزرقاء التعيسة عميق الحمرة، من حديد الدم!.
استدراكان واستشعار أخير
هنا يتوجب أن ندخل فى جملة اعتراضية لابد منها للاستدراك، فكل ما سبق لا يعنى نشر الرعب المطلق من اللحوم الحمراء، فبعيدا عن جنون العظمة والطمع البشريَّين فى استيلاد واستعباد الثيران البلجيكية الزرقاء ونهش لحومها بالغة الحُمرة، تظل اللحوم الحمراء، فى نطاق المُلاءمة الصحية، طعاما مهما يمدنا بفيتامين B12 الذى يساعد فى تكوين الـDNA ويحافظ على صحة خلايانا العصبية وخلايا دمائنا، كما يمنحنا المطلوب من عنصر الزنك المهم لفعالية جهازنا المناعى، ويمدنا بالبروتين الذى يعين فى تكوين عضلاتنا وعظامنا، ثم إنه ليس مفرطا فى زيادة ما نناله من السعرات الحرارية المسببة للسمنة. كل هذا صحيح فى حدود الاعتدال، طبقا لشعار جميل هو «لا إفراط ولا تفريط». لكننى لا أستطيع إلا أن أرى التفريط والإفراط معا فى كل ما يتعلق بذلك اللحم الأحمر الخالص للثيران البلجيكية الزرقاء التعيسة، والمُتعِسة، لمن يريد أن يعى ويرعوى، ففيها من إهدار الدم الكثير، أكثر من أى لحم آخر أحمر.
لقد صدر عن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) التابعة للقسم البحثى من منظمة الصحة العالمية، تصنيف يضع اللحوم المصنعة ضمن المجموعة الأولى من مسرطنات البشر، أى فى المجموعة نفسها التى تضم تدخين التبغ والتعرض للأسبستوس! ولا أجد غضاضة فى أن أكرر، أن هذا التصريح يتعلق باللحوم المصنعة، بينما لحوم الثيران الزرق الحمراء، فاقعة الحمرة، أنكى وأسخم. لكننى إلحاقا بذلك، يتوجب أن أفتح جملة اعتراضية أخرى لاستدراكٍ ثانٍ، يُنبِّه إلى أن العبث العلمى فى تثبيط جين الميوستاتين وتعبيراته للحصول على حيوانات عملاقة وكائنات ضخمة وبشر منتفخين بالعضلات، ليس هو كل الصورة، فكشف سر الميوستاتين يأخذ اتجاها بحثيا آخر لصالح الإنسان، فثمة أبحاث تتعلق بطرق مختلفة لتثبيط هذا الجين وتعبيره الهرمونى لعلاج أمراض الهزال العضلى المستعصية، ودعم عضلات القلوب الواهنة. وهذا من جوانب الخير الإنسانى، والاستقامة العِلمية.
فى النهاية، أستشعر أن ثمة قائلا سيقول لى عندما يقرأ ما كتبته هنا، طيب وما لنا نحن وما لهذه الحكاية وما تزخر به من لحوم فاقعة الحمرة لثيران بلجيكية زرقاء عملاقة ليست لدينا. وسأستبق بالرد قائلا: بل إن لدينا مثلها، إذا وضعنا الأمور فى الإطار الذى أحسب أننى أكتب فى دائرته، حيث كل موجود فى الوجود ـ حيًّا كان أو جمادًا ــ يتضمن فى قصة وجوده رسالة ما، مجازًا ما، استعارة ما، تشير إلى مثيل له، شبيه له، نظير له، معنوى أو مادى أو كلاهما. ونحن لا نَعدَم النظائر، فليس «المشروع النووى» باهظ الديون والهموم والارتهان للغير، وغامض الجدوى فى بلاد الشمس المُغدِقة، إلا محض مثال.