عندما قام الدواعش بتدمير آثار تدمر، كان أول ما قفز إلى ذاكرتى، هو ذكرى تلك الحضارة التى ازدهرت على يدى واحدة من أعظم الملكات العربيات، وربما أيضا من أعظم النساء قاطبة على مرالتاريخ.. إنها زنوبيا ملكة تدمر فى النصف الثانى من القرن الثالث الميلادى. أبوها فيما تذكر الرويات هو: عمرو بن الظرب بن حسان ابن أذينة، أما أمها فهى بطلمية سكندرية من حفيدات الملكة كليوباترا (التى يبدو أنها ورثت منها طموحها إلى المجد والسلطة).. ولدت زنوبيا فى الإسكندرية وتعلمت فيها اليونانية واللاتينية وقرأت الكثير من أعمال أفلاطون وهوميروس..
وبالإضافة إلى معرفتها بهاتين اللغتين فقد كانت تجيد القبطية والآرامية وتتكلم بهما بطلاقة، غير أن مزاياها لم تقتصر فقط على أنها امرأة مثقفة بل إنها أيضا كانت فاتنة الجمال، وأغرب من هذا كانت تجيد القنص والصيد والمبارزة، ولم تكن تمتطى إلا ظهور الجياد التى كانت تنطلق وتناور بها مثل أبرع الفرسان!!
تزوجت من أذينة حاكم تدمر التابع للإمبراطورية الرومانية، والذى كان يطوى فى نفسه طموحا للانفصال عن الإمبراطورية والاستقلال بالشام، فبدأ فى إعداد جيش كان من الواضح أنه أقوى مما تتطلبه المهام المكلف بها وهى صد الغارات التى تشن على أطراف الإمبراطورية، ولم تغب هذه الطموحات عن عيون (استخبارات) الرومان، فقاموا باغتياله!..
( يعتقد أن زنوبيا كان لها دور فى تنفيذ الاغتيال).. ولما كان أذينة قد اعتاد أن ينيبها عنه فى إدارة شؤون البلاد عندما كان يخرج للحرب، فقد كان من الطبيعى أن تتولى شؤون تدمر بعد رحيله باعتبارها وصية على طفلهما: «عبداللات» لكنها أعلنت الابن ملكا تابعا للرومان!!، وآثر قيصر روما أن يعترف بالوضع الجديد ترقبا للخطوة التالية، لكن زنوبيا واصلت سياسة النمو والتوسع بشكل يفوق ما كان يفعله أذينة نفسه فاستولت على كل بلاد الشام ووصلت جيوشها إلى بيزنطة فاستولت عليها!! ثم استولت على الإسكندرية!!
وقامت بصك عملة جديدة على أحد وجهيها صورة قيصر روما، وعلى الآخر صورة ابنها عبداللات، وظل الوضع كذلك إلى أن تولى أورليانوس الذى كان قويا وباطشا حكم روما عام 270م فاتبع معها سياسة مختلفة حيث لاينها فى بداية الأمر واعترف بنفوذها على الإسكندرية، لكنه سرعان ما نقض اتفاقه واستعاد المدينة بالقوة، واستمر فى زحفه إلى الشام، مما اضطرها إلى التراجع والتحصن فى تدمر التى كانت قد أنشأت فيها عددا من الحصون المنيعة، لكن أورليانوس حاصرها حصارا محكما إلى أن نفدت مئونتها واضطرت إلى التسليم بعد قتال مرير شاركت فيه بنفسها قبل أن تسقط فى الأسر، الطريف أن أورليانوس الذى كان يقدر الشجاعة والبسالة والثقافة (والجمال أيضا) لم ينكل بأسيرته بل أكرمها ووصل إكرامه لها إلى حد أنه عندما أمر بأن تحمل فى الأصفاد إلى روما أمر بأن تكون الأصفاد والسلاسل من الذهب الخالص!!، ولعل هذه هى المرة الأولى فى التاريخ وربما الأخيرة أيضا التى يصفد فيها أسير بالذهب!!...
ولقد ظل الكثير من آثار زنوبيا باقيا إلى يومنا هذا ومن بينها بقايا قلاع وحصون تدمربالإضافة إلى التماثيل الفريدة التى كان بعضها مودعا فى المتاحف السورية ولعل شيئا منها لايزال، بينما ظل التمثال الفريد «أسد اللات» منتصبا فى حديقة تدمر إلى أن قام الدواعش مؤخرا بتدميره، أظن أن من حقنا أن نقول بأنه إذا كان النظام السورى يلقى بالبراميل المتفجرة على خصومه، فإن الدواعش يلقون ببراميل الظلمات على تراث الإنسانية الذى هو ملك لجميع البشر.