من طوابير الكعك.. لطوابير الفسيخ!

عباس الطرابيلي الإثنين 04-07-2016 21:50

هل كُتب علينا أن نعيش حياتنا كلها طوابير فى طوابير؟! من طوابير فراخ الجمعية وطبق البيض.. إلى طوابير السمن الهولندى وصابون شم النسيم.. أيام القحط الناصرى، ومن طوابير حجز جهاز التليفزيون إلى حجز الثلاجة إيديال.. إلى طوابير العيش والبنزين والسولار.. وحتى طوابير الشقق والمساكن الشعبية، إلى أن وصلنا إلى طوابير كعك العيد.. وطوابير الفسيخ والملوحة.. إلى طوابير الحصول على تذكرة فى القطار إلى الصعيد.. حتى شبابنا لابد أن يمروا بطوابير مكتب التنسيق.. والآن نعيش عصر طوابير ماكينات صرف النقود.. طوابير شراء كعك العيد، وتوابعه، التى جعلت الشرطة تتدخل لتنظيم المرور أمام المحال الشهيرة التى تبيعه.. يعنى طوابير فى طوابير.. وكلها مكسب.. يلَّا بنا نحجز مكاناً فى طابور الفسيخ.. قبل ما يفرغ!!

وللفسيخ فى حياتنا موسمان.. واحد فى شم النسيم، الذى يحمل أحياناً اسم موسم شم الفسيخ.. وموسم الفسيخ أول أيام عيد الفطر المبارك.. وإذا كان المصرى يعشق أكل الفسيخ فى شم النسيم على أساس أنه عادة فرعونية من آلاف السنين.. ويعوض به فقد الجسم للأملاح بفعل الحر فى الصيف، فإن المصرى يرى فى أكل الفسيخ أول أيام عيد الفطر «ضرورة جسدية»، لأن المصرى «حرم نفسه» من الفسيخ، وربما عموماً من الأسماك طوال شهر رمضان.. من هنا فإنه «وهو شعب سمكى» يضرب عصفورين بحجر واحد.. الأول عشقه للسمك.. والثانى ليعوض فقد الجسم للأملاح.. وبالتالى ما كان يحرم نفسه من أكله طوال رمضان.. يحن ويجرى لشراء الفسيخ أو الأسماك المملحة: بورى وسردين وملوحة ورنجة.. بعد أن نسى الناس حتى اسم سمك الباكالاه.. وهو سمك مجفف «فرنسى الأصل وأحياناً إيطالى» وكنا نراه معلقاً فى واجهات محال البقالة الشهيرة، فى الأسبوع الأخير من رمضان.. ولا داعى لذكر كيفية تجهيزه وإعداده للأكل، ويمكن أن أشرحها لمن يحن للماضى!!

والفسيخ: أفضله من العائلة البورية: بورى.. جرانة.. طوبارة.. دهبانة وسهلية.. ثم السردين الذى كان يعتبر «الذهب السمكى» لسواحل مصر الشمالية، ثم الملوحة- الصعيدى- وهى من الأسماك الكلابى، وهى أيضاً من العائلة البورية.. ولكن بورى المياه العذبة.. وأخيراً الرنجة المدخنة.

وإذا كان المصرى يفطر بالكبدة والفشة والطحال والكلاوى أول أيام عيد الأضحى.. ويتغدى يومها بالفتة بالخل والثوم وصلصة الطماطم مع اللوبيا الناشفة- لزوم لحم الضحية- فإن نفس المصرى يتغدى أول أيام عيد الفطر بأكلة فسيخ معتبرة.. وإذا كان يخشى التسمم بأخطر أنواع سموم الأسماك ويتكلف العلاج منها عدة آلاف من الجنيهات، إذا كان هذا الفسيخ قد صنع من أسماك فاسدة.. فإن هذا المصرى «الخواف» يفضل تناول الرنجة.. فهى أقل ضرراً.. وأيضاً: أرخص لأن متوسط سعر الفسيخ البورى بين ٧٠ و٨٠ جنيهاً، بينما سعر أفضل رنجة يدور حول ٣٠ جنيهاً.. ولكن الأشد ملوحة.. هى الملوحة ويكفى اسمها!!

والخائفون من أضرار الفسيخ.. والمرضى- بالضغط والقلب- يحنون إلى شريحة فسيخ «واحدة» أو شريحة رنجة، على سبيل الذكرى، وهو يحاول بهذه أو تلك، أن «يقعد نفسه».. إذا كان يخشى طوال شهر رمضان تناول الفسيخ أو الرنجة.. حتى لا يصاب بالعطش طوال الصيام.. ويرى- عقب شهر الصيام- أن يضبط نفسه بأكله «حرشة»!!

وبسبب هذا الإقبال- على الفسيخ وتوابعه- نجد أن عندنا الآن «مدناً فسيخية»، أى كل نشاطها هو إعداد هذا الفسيخ، فى كفر الشيخ «دسوق»، وفى الدقهلية «نبروه»، وأيضاً فى دمياط، حيث عزبة البرج، وهناك من يسافر إلى هذه المناطق طلباً للفسيخ من منابعه الأصلية، وهناك من يفضل الزحام أمام محال الفسيخ الكبرى فى المدن الكبرى والأحياء الشعبية فى القاهرة وضواحيها.

* ورغم تحذيرات وزارة الصحة- قبيل كل موسم للفسيخ- فإن المصرى لن يتوقف عن طلب الفسيخ، ولو وقف ساعات فى طوابيره الطويلة.. بشرط أن يحسن اختيار المحل.. إذ يشترط استخدام الأسماك الطازجة وليس المجمدة لصنع الفسيخ.. فى أوعية نظيفة ومحال نظيفة.. وبطرق سليمة تبدأ بتخفيف ما فى السمك من مياه.. قبل حشوه بالملح الرشيدى الخشن، ولا يقدم للمستهلكين إلا بعد تمام تمليحه.. ومدة التمليح تتوقف على حجم السمكة.. إذ تحتاج مدة أطول كلما كانت السمكة كبيرة الوزن.. إذ يمكن تناول فسيخ السهلية أو الدهبانة بعد أقل من ٢٠ يوماً فى الملح.. أما البورى فيحتاج لمدة لا تقل عن ٢٥ يوماً.. لنضمن تمام النضج وانتهاء أى فرصة لنمو أى بكتيريا سامة!!

* ويشترط عصر كمية كبيرة من الليمون على الفسيخ.. وتناول كمية من الخس والملانة (الحمص الأخضر) مع البصل الأخضر.. ولا تشرب الشاى إلا بعد ساعتين.. فإذا مرت ثمانى ساعات دون أى مضاعفات فإن الفسيخ هنا كان سليماً.

ويلَّا نلحق أحد طوابير الفسيخ لنختار الأفضل.. وإياكم والفسيخ «الدلع» قليل الملح.. قصير مدة التمليح.. وبالهناء والشفاء.. ويلَّا بنا نلتهم الفسيخ.. وكل سنة والكل بخير!!