سعدت عندما تلقيت دعوة من السيدة ماجدة هارون، رئيسة الجالية اليهودية، والأستاذ ألبير إريه على حفل إفطار فى المعبد اليهودى التاريخى (بوابة السماء) فى شارع عدلى بوسط القاهرة. وقد افتتح المعبد فى عام 1908، ويعتبر معبداً مهماً فى تاريخ اليهود فى القرن العشرين. وكان الإفطار رائعاً، حضره مجموعة من المصريين، منهم د. رفعت السعيد، ود. محمود الخيال، ود. على السمان، والسفيرة مشيرة خطاب، والدكتور روبرتو أورفاللى، ومجموعة من السفراء الأجانب. وبعد الإفطار قمنا بجولة فى المعبد والمكتبة التاريخية الموجودة به، وقدمت الحفل الصحفية الكبيرة أمينة شفيق. وشرحت السيدة ماجدة مشروع نقطة اللبن لترميم وإصلاح المعبد اليهودى فى عدلى وإنشاء مركز ثقافى فى معبد مصر الجديدة. ونقطة اللبن هى جمعية أهلية أنشئت فى عام 1920 وأقامها أغنياء اليهود المصريين بغرض العناية بأطفال اليهود الفقراء الذين كانوا يعانون من نقص التغذية، وكانت تقدم وجبات للأطفال، وامتد الأمر لإنشاء مدارس لتعليم أطفال اليهود، وكان ذلك فى عشرينيات القرن الماضى. والآن يريدون إحياء هذه الجمعية لإصلاح المعابد والآثار اليهودية.
وأنا أعتقد أن ترميم معبد عدلى هو عمل مهم للتراث المصرى، ونحن نعلم أن يهود بروكلين حاولوا ما استطاعوا أن ينقلوا تراث هذا المعبد إلى نيويورك، ولكن الجالية المصرية الصغيرة رفضت ذلك واعتبرت أن المعبد أثر مصرى يجب الحفاظ عليه وعلى مقتنياته، ويجب أن نشجع ونساعد رئيسة الجالية على الحفاظ على هذا التراث المصرى.
ربما يعلم القارئ أن السيدة ماجدة هارون، رئيسة الجالية، هى ابنة المحامى المصرى الشهير شحاتة هارون الذى كان مصرياً وطنياً حتى النخاع ورفض الهجرة من مصر تحت أى ظرف من الظروف، وكتب فى وصيته أنه يرفض أن يحضر حاخام من إسرائيل للصلاة عليه، وفعلاً عند وفاته حضر حاخام من فرنسا لأداء شعائر الجنازة. وكان شحاتة عضواً فى اللجنة المركزية لحزب التجمع وكان معادياً للصهيونية، وعندما سُئل كيف تكون يهودياً معادياً للصهيونية؟ كانت إجابته كيف تكون مسلماً ومعادياً للإخوان المسلمين، أو أمريكياً أبيض ومعادياً للتفرقة العنصرية؟ وقد استطاعت العائلة نشر النعى الذى كتبه شحاتة هارون بصعوبة بالغة فى الأهرام، وكان نصه: «أنا مصرى حين يضطهد المصريون، ويهودى حين يضطهد اليهود، وفلسطينى حين يضطهد الفلسطينيون، وأسود حين يضطهد السود».
واليهود المصريون من أصول مختلفة، فهناك تواجد يهودى فى مصر منذ آلاف السنين، ولكن كان تعداده دائماً قليلاً. ثم جاءت الهجرة اليهودية الكبرى إلى دول حوض البحر المتوسط بعد طرد اليهود والمسلمين من إسبانيا فى عام 1492م. وانتشر اليهود فى الإمبراطورية العثمانية، وعاشت أجيال منهم فى مصر، ومع افتتاح قناة السويس هاجرت أعداد منهم من تركيا والشام وشمال أفريقيا إلى مصر. وفى القرن العشرين ومع بداية صعود النازية فى ألمانيا وشرق أوروبا هاجرت أعداد كبيرة من أوروبا إلى مصر واستوطنت فيها وارتفع هذا العدد قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
عاشت الطائفة اليهودية فى مصر زمناً جميلاً تمتعت فيه بالمواطنة والحب والتعاون مع المصريين، وشاركت فى الفن والسياسة والاقتصاد وحققت نجاحاً كبيراً. وكانت الكارثة التى حلت بالطائفة اليهودية فى مصر هى إنشاء دولة إسرائيل، فمنذ بدء إنشاء المستوطنات اليهودية انقسم اليهود فى مصر إلى قسمين: الجانب الأكبر كان معتزاً بوطنه مصر ورفض الأغنياء منهم التبرع لبناء المستوطنات. ولكن بنهاية الحرب العالمية الثانية زادت الضغوط الخارجية من الجمعيات الصهيونية على اليهود المصريين والضغوط الداخلية من الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة، ثم جاءت الضربة القاصمة عند اشتراك إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر وما استتبعه من عداء ضد اليهود وعدم التفرقة عند الغالبية من المصريين بين اليهودية كديانة والصهيونية كمذهب سياسى، وكان القرار السياسى بتسهيل سفر اليهود مع إلغاء إقامتهم الدائمة على جوازات السفر أو الضغط عليهم للتنازل عن الجنسية ضربة نهائية أدت لتقليص الجالية فى مصر. ومعظم من هاجر لم يذهب إلى إسرائيل بل ذهبوا إلى فرنسا وأمريكا وكندا وأستراليا، ولكن كان هناك يهود بأعداد قليلة اعتبروا أن مصر وطنهم الوحيد واستمروا فى الحياة فى وطنهم فى ظروف غاية فى الصعوبة.
أعتقد أنه آن الأوان بوضوح أن نفرق بين الدين والمواطنة. أنت مصرى وطنى يجب أن نحترمك ونحافظ عليك، كدولة وكمواطنين، بغض النظر عن ديانتك، أنت مسلم أو مسيحى أو يهودى أو حتى أى دين آخر أو لا تؤمن بدين، هذا اختيارك وهذه مسؤوليتك وواجبنا كدولة أن نعطيك حقوق المواطنة كاملة وأن نحافظ عليك.
مصر لكل المصريين الوطنيين الذين يدافعون عن أرضها وشعبها وترابها بكل إخلاص. تحية لكل المصريين الوطنيين من كل دين وكل ملة.
قوم يا مصرى.. مصر دايماً بتناديك