نزلاء «الصحة النفسية».. إفطار يتحدى «الهموم»

كتب: ولاء نبيل الثلاثاء 05-07-2016 08:39

فقدوا القدرة على التواصل مع المجتمع، بعد أن تعرضوا لضغوط نفسية لم تكن تتلاءم مع قدرتهم على الاحتمال، حاولوا مرارا التكيف معها، لكنها كانت أقوى منهم، ليصبحوا مرضى بحاجة للمساعدة والرعاية، بعيدا عن تلك الضغوط، فكان لهم مبنى يعرفه الجميع بكونه مستشفى للصحة النفسية.

على الرغم من أن احتكاكهم مشروط بمن حولهم خارج جدران المستشفى إلا أن هناك مناسبة سنوية تضفى طابعها الخاص والمميز على الجميع، وهى استقبال شهر رمضان الكريم بأجوائه الروحانية التى قررت معها إدارة المستشفى دعوة جميع مرضاها للالتفاف حول مائدة الإفطار.

«المصرى اليوم» قضت يومًا مع نزلاء المستشفى، وشاركتهم مائدة الإفطار، تأملت ملامح وجوه قررت فى لحظة تحدى أن تخرج صورها التى التقطتها عدسات الجريدة فى أجمل صورها، بعد أن ارتسمت عليها ابتسامة ألقت فى لحظات معدودة بكل هموم العالم وراء ظهرها.

حرصت على أن تكون «توكة شعرها» متلائمة مع ملابسها، تلك هى عادة أمل أبوالعلا، إحدى نزيلات المستشفى، فهى تحرص على أن تكون ملابسها متناسقة لأقصى درجة قبل أن تخرج كل يوم من عنبرها: «أنا ست حلوة وبأحب أبقى دايما جميلة». قناعة شخصية عاشت بها أمل طيلة عمرها الذى يبلغ 59 عامًا، وهى أن الإنسان يمكنه أن يعيش فى سعادة طالما قرر أن يسعى لها: «لكن ساعات الظروف بتبقى أقوى من بنى آدم».

تعرضت أمل لموقف كان أقوى من كل مقاومات السعادة لديها فهزمها، ورغم هزيمتها النفسية التى أودت بها إلى مستشفى الصحة النفسية، إلا أنها تعى أن ما حدث ليس ضعفا، فأى أم تعرضت للحرمان من أولادها عقب الانفصال عن زوجها يمكن أن تلاقى نفس المصير.

«مقدرتش أقاوم فراقهم بعد ما اتربوا فى حضنى 12 سنة»، تختفى الابتسامة على غير العادة فجأة، تشرد بعدها بذهنها، لتعود لتواصل الحديث بلسان تلعثم من الحزن، «أصعب حاجة فى الدنيا فراق الضنا.. بس قلبى ما بيبطلش دعاء ليهم.. والحمد لله عايشة وأنا مطمنة عليهم».

علاقة «أمل» بالمستشفى تواصلت على مدار 28 سنة لكنها لم تنتهِ، إذ لا تزال تخضع للعلاج من نوبات الاكتئاب، كانت تخرج للحياة، ثم تعود للمستشفى فى زيارات متقطعة، حتى استقر بها الحال منذ 9 سنوات، لم تطأ فيها قدمها بوابة المستشفى، وإن كانت لا يزال لديها «أمل» فى الخروج نهائيا، والاستقلال بحياتها الخاصة: «ولو فى شقة أوضتين، يكون فيها بوتاجاز من أبوفيشة».

قد يكون لنظام العلاج بالمستشفى نظام وتوصيات طبية، يلتزم بها الجميع، كى تُعجل من خطوات المرضى نحو الشفاء، إلا أن «أمل» حسبما تذكر لها نظام حياتى آخر، لا تسمح هى الآخرى بأى تجاوز فيه، والذى يبدأ بأن تستيقظ للتناول الإفطار والعلاج، ثم تختار الملابس والماكياج الملائم لطبيعة يومها، خاصة أنها عضو فى فريق المسرح، وتؤدى فيه أدوارا مختلفة، على مدار قرابة 4 أيام بالأسبوع.

«أنا متابعة كل حاجة بتحصل بره وعارفة كل حاجة من التليفزيون، عجبنى مسلسل العصيان والأيام، وبحب نادية الجندى، وصافيناز، وبسمع وردة وفايزة أحمد وكوكبتنا كلنا أم كلثوم».

وفى مواجهتها جلست مديحة مصطفى تداعب «أمل» وتنصحها بالتمهل فى بالبدء بالإفطار حفاظا على المكياج، فتدوى الضحكات بين الجالسين، ثم بدأت «مديحة» فى توزيع التمر، على المرضى الجالسين على نفس المنضدة، لضمان أن يفطر الجميع على البلح أولاً.

خطأ طبيب فى وصف أحد أدوية المهدئات هو الذى أجبر «مديحه» على زيارة مستشفى الصحة النفسية على مدار 15 عاماً، لعلاج آثار أعراض الدواء الخاطئ، هكذا بدأت الحديث عن حالتها «بكره المشاكل وبتعب منها، بحب كل الناس، وأحب أودهم بس ما بحبش المشاكل، ما بقدرش أواجهها».

حبها للتواصل مع الآخرين دفعها لإقامة شبكة ودية من العلاقات مع زملائها من نزلاء المستشفى، فعلمت بعضهم ما تتقنه من مشغولات يدوية لفن صناعة المفارش، كما أنها لا تضيع عليها حفلة أو رحلة من التى يتم تنظيمها داخل أو خارج المستشفى، وتجد فيها حالة من السعادة الغامرة، خاصة إذا كانت فى أجواء وروحانيه كشهر رمضان، تتزين فيه المستشفى بالفوانيس وأعلام الزينة.

تدعو مديحة الله بين الوقت والآخر بأن يطيل فى عمر والدتها التى تجاوزت الثمانين عاماً، والتى لا تفارقها وتعى مرحلتها العلاجية، ويسعى رغم كبر سنها الأخذ بيدها للتجاوز تلك المرحلة: «كانت بتيجى معايا وأنا باخد العلاج فى أول ما دخلت المستشفى، ولما بيكون فى حفلة أو فطار لينا وبيعزموها ما بتتأخرش عنى، وده اللى خلانى واقفة على رجلى، وساعات بحس أنى فعلا بقيت كويسه فباجى المستشفى لوحدى من غيرها».

حرص المرضى على تبادل أطباق الطعام على الإفطار، وبعضهم تبرع بجزء من نصيبه لياسر صلاح، كابتن فريق كرة القدم للمستشفى، فهم يرون على حُسن تغذيته ولياقته البدنية، سيكون أحد عناصر الضامنة اللعب الجيد، وبالتالى تزيد احتمالات فوز فريق المستشفى عند منافسته لفرق باقى مستشفيات الصحة النفسية.

وهو ما علق عليه «ياسر» بأن الرياضة هى وسيلته الوحيدة الآن لإثبات ذاته، وللرد على مشاعر الإحباط التى سيطرت عليه، بعد أن أخفق فى النجاح على مدار حياته فى مراحل مصيريه، ومنها - كما يذكر- رسوبه فى الثانوية أربع مرات، وعدم ارتباطه بالإنسانة الوحيدة التى حبها قلبه، فى بداية الأمر حاول «ياسر» الهروب من تلك الأزمات بالهروب منها والسفر إلى ليبيا لفترة من الزمن، عاد بعدها وقرر أن ينهك أحزانه بالالتحاق بالأعمال الشاقة، وفى أماكن بعيدة، فعمل مراكبى بمحافظة أسوان، قبل أن يحصل على وظيفة حكومية، ويجد الآن فى ممارسة الرياضة النجاح الذى ينقصه، فتميز فى لعب كرة القدم، والملاكمة، وحصل على مراكز أهلته للحصول على عضوية بعض النوادى.

لكونه وحيد والديه لم يجد «ياسر» أمامه سوى تأجير شقة، يعيش فيها بمفرده فى الفترة التى يخرج فيها من المستشفى: «أكتر حاجة بتألمنى لما أكون تعبان وملاقيش حد يسعفنى، لدرجة أنى رحت عملت قسطرة للقلب مع نفسى، وطول الوقت كان نفسى قوى يكون لى طفل أو 2 أعيش معاه، أربيه، ويكبر على إيدى، وعلشان كده تلاقينى فى البيت بأربى عصافير وأراعيها، ولو حتى دخل فار للبيت ما برضاش أطلعه، بفضل أراقبه، على الأقل أشوف حاجه بتكبر قدام عينى».

التقطت منه عيدية عبدالحميد طرف الحديث، مؤكدة أن أحيانا كثرة الأهل والعزوة أحيانا ما تكون سببا فى أن تدب بينهم الخلافات، بما ينعكس سلبا على نفسية أحدهم، حتى وإن كانوا لا يقصدون ذلك.

تجربة قاسية عاشتها «عيدية» فى السادسة من عمرها، إذ تشاجرت مع أحد الأطفال فى نفس عمرها الذى لم يكن يتجاوز السادسة، لتفاجأ بأبيهم يصحبها إلى ترعة البلد ويلقى بها، بمنتهى الوحشية، لتصاب على أثر ذلك بحالة من الهياج والاستيقاظ المفاجئ من النوم.

«كل البلد عرفت بالموضوع، ولفوا بيا على المشايخ والدكاتره، وخدت علاج بالكهربا، لحد ما عرفت طريق العلاج بالمستشفى». «عيدية» كانت تأتى للمستشفى كل شهر لصرف حصتها من العلاج، لكن السفر من صعيد مصر للقاهرة بمفردها كان يرهقها، فقررت البقاء فى المستشفى، التى لم تفارقها منذ 5 سنوات.

«غناء.. رسم.. تمثيل مسرحى.. رياضة.. مشغولات يدوية.. وأعمال نجارة.. وإتقان لاستخدام الحاسب» كل ذلك هو جزء من أنشطة وحدة أنشأت خصيصا عام 2003 تحت مسمى وحدة الرعاية النهارية للمرضى، تعدل اسمها لوحدة التأهيل النفسى والاجتماعى داخل المستشفى لتكون مرحلة ثانية ومهمة كما يصفها الدكتور مصطفى قاسم، مدير الوحدة، فى علاج المرضى بعد مرحلة العلاج الدوائى.

أى أعراض نفسية تستمر مع المريض بعد مرحلة العلاج الدوائى يكون ملجأه للشفاء منها هو وحدة التأهيل النفسى، فلكل عرض ومرض نشاط مجتمعى، يركز عليه فريق الأطباء العاملين فى الوحدة، ويحاولون دمج المريض فيه لإزالة العرض النفسى، من خلال برامج علمية ومعتمدة، ومنها حسب ما يقول الدكتور مصطفى الغناء، الذى يعالج حاسة الخجل المبالغ فيه من المجتمع، ويزيل إعاقة نطق الكلام، أو حتى رغبة المريض فى عدم الكلام رغم قدرته عليه، وكذلك الاكتئاب، فضلا عن كونه يمنح المريض ثقة فى النفس.

يتابع قاسم: «يبقى دور هام فى علاج المرضى وهو التواصل المجتمعى مع أقرب الناس إليهم، وهو ما نعانى منه فعلياً بسبب إهمال الكثير من الأهالى فى التواصل مع ذويهم»، وأوضح أن الجميع البشرمعرضون للإصابة بالمرض النفسى، وبالتالى لا بد أن يكون هناك نهج آدمى فى التعامل معهم، وأن تتغير صورة وصمة العار المرتبطة بهم، فالمريض بمجرد علاجه يعود لكامل طبيعته، ولذلك نجد أن أغلب المرضى يعودون للمستشفى بعد تماثلهم للشفاء، بسبب رفض المجتمع لهم، حيث يترسخ لديهم فكرة أنه لم يعد له مكان وسط هؤلاء، وعلى العكس تماماً تجد المريض النفسى فى قمة سعادته، حين يبادر أى شخص بالتواصل معه، ويشعر أنه مقبولاً لديه، لأننا بطبيعتنا جميعا بشر، نعيش على القبول.