شهدت السنوات الأولى من حكم محمد على تصاعدا لنفوذ الزعامات الشعبية التي أتت به إلى الحكم، خاصة عمر مكرم يقول الجبرتى: «ارتفع شأن السيد عمر مكرم وزاد أمره بمباشرة الوقائع وولاية محمد على باشا، وصار بيده الحل والعقد والأمر والنهى والمرجع في الأمور الكلية والجزئية».
وحرص الباشا الداهية الطموح على إرضاء هؤلاء الزعماء حتى يساندوه في السنوات الأولى من حكمه التي اتسمت بالمصاعب مع الأتراك في الباب العالى، ومع أمراء المماليك في الداخل، وكذلك مع الإنجليز، وتمرد الجنود الدلاة والأرناؤود الذين كانوا يثيرون الذعر في نفوس الأهالى بسبب السلب والنهب والقتل عندما تتأخر رواتبهم.
وكان ينتظر الوقت المناسب للتخلص من مراقبة هؤلاء الزعماء، خاصة عمر مكرم صاحب الأيادى البيضاء على محمد على والسبب في توليه حكم مصر، ويقول عبدالرحمن الرافعى في كتابه «عصر محمد على»: «من الراجح أن محمد على باشا كان يميل في ذات نفسه إلى التخلص من الزعامة الشعبية التي أجلسته على قمة المجد، لأن هذه الزعامة كانت في هذه السنوات الأولى من حكمه بمثابة سلطة ذات شأن تستقصى عليه وتراقب أعماله مراقبة مستمرة، وكانت ملجأ الشاكين ممن ينالهم الظلم أو تخيفهم مساوئ الحكام».
خطط الباشا للتخلص من السيد عمر مكرم وفى نفس الوقت إضعاف المشايخ الذين كان الانقسام قد دب بينهم منذ البداية، وقد واتته الفرصة في عام 1809، عندما اتخذ مجموعة من القرارات، منها فرض ضرائب على الأراضى المعفاة كأراضى الرزق الإحباسية والأواسى كما كلف أتباعه بحصر الأوقاف والرزق ومطالبة نظارها والمستفيدين منها بتقديم المستندات التي تثبت ملكيتهم لها أو مصادرتها، وقرر الاستيلاء على نصف ما يتحصل عليه الملتزمون، وتزامن ذلك مع اعتقال الكشاف لواحد من طلاب الأزهر وسجنه في القلعة، فبدأت حالة من التذمر في القاهرة وخرجت المظاهرات في الشوارع إلى الأزهر، في الوقت الذي توالت فيه الشكاوى من الأقاليم بسبب قرارات محمد على، فاجتمع عمر مكرم والمشايخ وقرروا كتابة عريضة للباشا بمطالب الناس وعدم الصعود له للقائه بالقلعة، وتعاهدوا على ذلك، فأرسل محمد على أحد رجاله إليهم، ويروى الجبرتى ما حدث فيقول: «حضر ديوان أفندى وقال إن الباشا يسلم عليكم، ويسأل عن مطلوباتكم، فعرفوه بما سطروه إجمالا، وبينوه له تفصيلا، فقال ينبغى ذهابكم إليه، وتخاطبونه بما تريدون، وهو لا يخالف أوامركم ولا يرد شفاعتكم، وإنما القصد أن تلاطفوه في الخطاب لأنه شاب مغرور جاهل وظالم غشوم ولا تقبل نفسه التحكم، وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم وعدم إنفاذ الغرض، فقالوا بلسان واحد لا نذهب إليه أبدا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه كما كنا في السابق، فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور».
ويضيف الجبرتى: «اجتمع الشيخ المهدى والشيخ الدواخلى عند محمد أفندى طبل، ناظر المهمات، وثلاثتهم في نفوسهم للسيد عمر ما فيها، وتناجوا مع بعضهم، ثم انتقلوا في عصرها وتفرقوا، وحضر المهدى والدواخلى إلى السيد عمر، وأخبراه أن محمد أفندى المذكور ذكر لهم أن الباشا لم يطلب مال الأوسية ولا الرزق، وقد كذب من نقل ذلك، وقال إنه يقول لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم به ومواجهته يحصل المراد».
ورد عليهم مكرم وفند حججهم بالمستندات، وأقسم ألا يرى محمد على إلا إذا عدل عن مشروعه في فرض ضرائب جديدة، وقال: «إذا أصر الباشا على مظالمه فإننا نكتب إلى الباب العالى، ونثير عليه الشعب، وأنزله عن كرسيه كما أجلسته عليه».
صعد الشيخ الدواخلى والشيخ الشرقاوى إلى القلعة للقاء الباشا، وأثناء اللقاء هاجم محمد على، عمر مكرم وانتقد مواقفه، فأعطوه الإشارة إلى استعداد كبار المشايخ للتخلى عن عمر مكرم، وقال الشيخ المهدى: «هو ليس إلا بنا، وإذا خلا عنا فلا يسوى بشىء، إن هو إلا صاحب حرفة، أو جابى وقف يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين».
ولقد هدد محمد على السيد عمر مكرم وزرع الجواسيس حول بيته لرصد تحركاته ومتابعة ما يقوم به، وفى نفس الوقت حاول شراءه بالمال، لكن عمر مكرم ثبت على موقفه.
وهنا دبر محمد على والمشايخ مؤامرة للتخلص نهائيا من عمر مكرم، ففى صباح الأربعاء 9 أغسطس 1809 توجه محمد على إلى منزل ابنه إبراهيم بالأزبكية واستدعى القاضى والمشايخ، للاحتكام إليهم فيما وقع بينه وبين السيد عمر مكرم، بعد أن رتب الأمر معهم على إصدار قرر بنفيه بعيدا عن القاهرة، ووجه الدعوة لعمر مكرم للحضور، وكان هناك احتمالان لا ثالث لهما: أن يحضر ويتفق القاضى وأغلب المشايخ على إدانته بتهمة الخروج على ولى الأمر، أو يرفض فيعتبر رفضه خروجا وعصيانا، ورفض عمر مكرم المثول في المجلس الذي كان يعرف قراره المعد مسبقا، وبالفعل تقرر عزله ونفيه إلى دمياط، وتعيين شيخ السادات نقيبا للأشراف.
أما الشيخ المهدى فأسرع يطلب المكافأة، وكانت له، فأخذ وظائف عمر مكرم في نظر أوقاف الإمام الشافعى ووقف سنان باشا ببولاق، وحصل على ما كان متأخرا له من راتبه من الغلال نقدا وعينا لمدة 4 سنوات دفعها محمد على نقدا من خزانة الدولة.
كانت النتيجة سقوط مكانة المشايخ في نظر الناس وفى نظر محمد على أيضا، ويقول الرافعى: «لم يكن المهدى والدواخلى والشرقاوى في موقفهم عاملين على هدم السيد عمر فحسب، بل كانوا في الواقع يهدمون أنفسهم وزملاءهم، وكل عضو في تلك الجماعة الشعبية التي قامت بدور خطير في تاريخ مصر القومى».
في هذه الفترة عاشت نفيسة والحريم المملوكي مرحلة قاسية، من دون ظهير قوي يوفر لهن الأمان فالمشايخ لم تعد لهم مكانتهم القديمة، والمماليك متشرذمين، ولقد فروا إلى الصعيد والأقاليم ولقد دب في نفوسهم اليأس بعد هزيمة الإنجليز في رشيد.
كان عدد المماليك في ذلك الحين يبلغ 2500 وقد استعان محمد على باشا على رؤسائهم منذ سنة 1807 بالحيلة، فابتدأ باستمالة شاهين بك الألفي زعيم الأمراء المرادية في الصعيد، وخليفة محمد بك الألفي، ومازال يعرض له المودة والصفاء حتى اجتذبه إلى القاهرة ووافقه على أن يقيم بالجيزة ويكون له إيراد إقليم الفيوم وثلاثين قرية في إقليم البهنسا، وعشرى قرى في الجيزة، وأطلق له التصرف في ذلك كله التزاما وكشوفية وضم له كشوفية البحيرة بتمامها إلى الإسكندرية، وكتب له الحجة رسمية، وبذلك فقدت نفيسة آخر قوة مساندة لها، وأصبحت عزلاء في موقف صعب لا تحسد عليه.
وغدا نصل إلى محطة النهاية
ektebly@hotmail.com