بالعقل والمنطق، أعتقد أن القانون المنظم لعمل هيئة قضايا الدولة يجب أن يكون واضحاً فى أن وظيفة محامى الدولة هى الدفاع عن حقوقها، وليس التنازل عنها أبداً، بمعنى أنه لا يجوز لهذا المحامى أو ذاك الحصول على راتب شهرى من الدولة، للدفاع أمام المحاكم عن دولة أخرى، أو التنازل عن حقوق وطنه لتلك الدولة.
بالتالى كان يجب أن نتوقف طويلاً أمام تلك الحالة الغريبة، التى ذهب خلالها محامى هيئة قضايا الدولة إلى محكمة القضاء الإدارى لينفى أن جزيرتى تيران وصنافير أرض مصرية، المفترض أن هذه ليست مهمته على الإطلاق، الدولة المصرية تكفلت بتربيته، وتعليمه، والإنفاق عليه، ثم بعد ذلك توظيفه، وحصوله على راتب شهرى نتيجة هذا العمل، الذى ينحصر فى الدفاع عن حقوق الدولة، أو حقوق الحكومة، وليس العكس.
السؤال هو: هل يجوز للحكومة إصدار تعليمات لهيئة قضايا الدولة، ممثلة فى محاميها، بالتوجه إلى هذه المحكمة أو تلك، للتنازل عن حق من حقوق الدولة؟؟!، ماذا إذا رأى المحامى المكلف بهذه المهمة أن ذلك التنازل يتعارض مع وثائق تحت يده، أو أخرى متداولة، تثبت عكس ذلك، ماذا إذا دارت الأيام دورتها، وحدث حساب وعقاب من نوع ما، أو جرت محاكمات حول التفريط فى هذا الحق، هل ستكون الحكومة وحدها مسؤولة، أم أن هيئة قضايا الدولة سوف تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، باعتبار أنها لم تُعمِل لا العقل ولا القانون، وكانت بمثابة حامل الحقيبة؟!!.
هذه الأسئلة أوجهها إلى الهيئة مباشرة، علّها تراجع نفسها فيما يتعلق بذلك الدور المثير للجدل الذى تؤديه الآن، خلافاً للاتجاه الوطنى أو الشعبى، وربما القانونى أيضاً، والذى لم يحصل على حقه من الشرح فى الدستور، فقد ورد فى المادة ١٩٦ ما نصه: قضايا الدولة هيئة قضائية مستقلة، تنوب عن الدولة فيما يرفع منها أو عليها من دعاوى، وفى اقتراح تسويتها ودياً فى أى مرحلة من مراحل التقاضى، والإشراف الفنى على إدارات الشؤون القانونية بالجهاز الإدارى للدولة، بالنسبة للدعاوى التى تباشرها، وتقوم بصياغة مشروعات العقود التى تحال إليها من الجهات الإدارية وتكون الدولة طرفاً فيها، وذلك كله وفقاً لما ينظمه القانون. ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى، ويكون لأعضائها جميع الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية، وينظم القانون مساءلتهم تأديبياً.
كما أن قانون الهيئة نفسه رقم ٧٥، والذى أصابته الشيخوخة بالتأكيد، حيث صدوره منذ عام ١٩٦٣، ربما لم يخرج عن هذا الإطار، فيما يشير إلى أن المُشرِّع لم يخطر له على بال أن محامى الدولة يمكن ذات يوم أن يترافع أمام المحاكم لصالح دولة أخرى، إلا أن القانون المدنى كان واضحاً، فى أن من ينوب عن الغير يجب أن يعمل لصالحه، أى لمصلحة الأصيل، وبذلك فقد خرج محامى الدولة عن هذا النص، أو عن تلك القاعدة.
السؤال أيضاً: هل من حق المحكمة الإدارية العليا أن ترفض، لهذا السبب تحديداً، تمثيل محامى هيئة قضايا الدولة أمامها، فى هذه القضية التى نحن بصددها، وتتذرع فى ذلك بأن مهمته يجب أن تكون الدفاع عن حقوق الدولة، وليس العكس؟، وهل يمكن أيضاً أن ترفض وجوده، بزعم انتفاء المصلحة، نظراً لأن القانون يشترط توافر المصلحة للمدعى أو الطاعن؟.
أعتقد أن المستقبل سوف يحمل الكثير من المفاجآت مستقبلاً، فيما يتعلق بهذه القضية المطروحة الآن، نظراً لغرابتها إلى الحد الذى جعل منها حالة فريدة من نوعها فى العالم، إلا أن ما هو مؤكد أن محكمة القضاء الإدارى قد استندت فى حكمها، ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، إلى ٢٣ سبباً، لا علاقة لها بالإجراءات، كما يحاول أن يُروّج البعض، وإنما ركزت هذه الأسباب فى الموضوع، تحديداً فيما يتعلق بالتاريخ والجغرافيا، والمكاتبات الرسمية، والخرائط والوثائق، إلى غير ذلك من الأدلة القوية، إلا أن تدخل هيئة قضايا الدولة هذه المرة، بهذه الطريقة، قد يرفع من عدد الأسباب.
على أى حال، مازال البعض، وخصوصاً من القانونيين، يراهن على موقف وطنى أصيل من هيئة قضايا الدولة، حتى لو لم يكن على المستوى الفوقى، يكفى فقط على مستوى المحامين، تُسجل من خلاله الهيئة قاعدة قانونية جديدة، أو مبدأ قانونيا فريدا، يكون بمثابة رسالة إلى العالم مؤداها أن لدينا قانونيين شرفاء، على مستوى المسؤولية، يشار إليهم بالبنان، بدءاً بدائرة أول درجة، التى سجلها التاريخ القضائى والشعبى بأحرف من النور، مروراً بهيئة قضايا الدولة، وانتهاء بالمحكمة الإدارية العليا، ذلك أنها جميعا تمثل منظومة قضائية واحدة، أو مكملة لبعضها البعض، يمكنها إصلاح ما تفسده السلطات الأخرى، مهما كان حجمه، صغيراً كان أو كبيراً.