كتبت فى الأسبوع الماضى أن الأسس التى قامت عليها العلاقات المصرية الأمريكية منذ السبعينيات لم تعد صالحة للمستقبل، وأن العديد من الدوائر الأمريكية بدأت فى مراجعة أسس هذه العلاقة، ودعوت إلى ضرورة وضع رؤية مصرية لمستقبل هذه العلاقة.
هذه الدعوة، أرى أنها تتوافق مع ما أعلنه الرئيس السيسى فى حواره التليفزيونى مع أسامه كمال من أن «الولايات المتحدة كان لها دور إيجابى مع مصر خلال السنوات الماضية وحتى الآن، ولكن أدبيات العلاقة منذ ٣٠ عاما لا تصلح الآن وغير ملزمة لنا». كما يتيح وصول رئيس أمريكى جديد للبيت الأبيض فى يناير المقبل فرصة لتبنى نموذج جديد للعلاقة.
ونحن نبحث عن هذا الإطار الجديد للعلاقات مع الولايات المتحدة دعوت للابتعاد عن النموذج «الباكستانى» وتبنى النموذج «الهندى». النموذج الباكستانى قام بالأساس على تطوير العلاقات العسكرية والأمنية والتعاون لمكافحة الإرهاب، وغابت عنه الرؤية الكلية للعلاقة، كما غابت الإرادة والمبادرة للخروج من هذا الصندوق التقليدى، حتى تآكلت أهمية هذه العلاقة بالتدريج. أما النموذج الهندى، وبالرغم من أنه الأحدث فى تطوير العلاقة مع الولايات المتحدة، إلا أنه وضع أسسا قوية ومتنوعة لهذه العلاقة، عكس بالأساس احتياجات ومصالح الهند، وفهمها لتطور السياسة الأمريكية فى آسيا، وكيفية تبنى مصالح مشتركة فى هذا الإطار.
الهند أكدت من البداية أنها لا تسعى لإقامة علاقة «تحالف» مع الولايات المتحدة، وأن سياستها الخارجية التى اتسمت تاريخيا بالاستقلالية منذ تبنيها سياسة عدم الانحياز، يمنعها من وصف أو إقامة علاقة تحالف. وتقبلت الولايات المتحدة هذا الأمر، وتبنت الدولتان نموذجا من الشراكة يتيح لهما مساحة من التعاون ومساحة من الاختلاف دون هدم أسس العلاقة. وأتاح ذلك للهند مثلا تأييد روسيا فى الأزمة الأوكرانية، وبناء علاقة وثيقة مع قوى كبرى أخرى مثل الصين واليابان.
تطوير العلاقة مع الولايات المتحدة استند كثيرا لرؤية نيودلهى، حيث تبنت الهند - وخاصة فى عهد رئيس وزرائها الحالى مودى - خطة واضحة للتنمية، وجعلتها محورا لعلاقتها مع الولايات المتحدة. على سبيل المثال طورت الهند استراتيجية للاستثمار أطلقت عليها «إصنع فى الهند» Make in India استهدفت جذب الاستثمار الصناعى، وقامت بتشبيك الولايات المتحدة فيها. وتبنت خطة لتطوير قطاع التكنولوجيا واستخدامه فى حل مشاكل الهند المزمنة، أطلق عليها «الهند الرقمية»، وسعت لجذب الشركات الأمريكية الكبرى مثل جوجل وأبل ومايكروسوفت للمشاركة فيها، وبالتالى لم يعد اهتمام الهند قاصرا على الساحل الشرقى الأمريكى حيث واشنطن ونيويورك بل امتد للساحل الغربى حيث وادى التكنولوجيا فى شمال كاليفورنيا، والذى زاره رئيس وزراء الهند عام 2015 والتقى برؤساء كبرى شركات التكنولوجيا. ويرتبط بذلك الشراكة التى أقامتها المعاهد التكنولوجية الهندية مع مثيلتها الأمريكية، والاتفاق على أجندة بحثية تساهم فى حل المشاكل الهندية. كذلك تبنى مبادرة مشتركة لتطوير التعليم الفنى فى الهند بالتعاون مع الكليات الفنية بالولايات المتحدة Community Colleges وجاء ذلك فى سياق إعلان الهند أنها تسعى لأن تكون عاصمة الموارد البشرية للعالم. حتى التعاون العسكرى لم يقتصر على شراء السلاح والتدريبات المشتركة بل تم التوسع فى التصنيع العسكرى المشترك. وفى 2015 تم رفع مستوى «الحوار الاستراتيجى» بين البلدين الى حوار «استراتيجى وتجارى»، وغير ذلك من أوجه التعاون التى لا تكفى المساحة لذكرها.
الهند يمكن أن تمثل نموذجا لمصر ليس فقط فى المجال السياسى والاقتصادى، ولكن أيضا فى إقامة علاقة جديدة مع الولايات المتحدة تتيح مساحة للاختلاف، وتحترم استقلالية القرار المصرى، وتخدم رؤيتنا وأولوياتنا فى عملية التنمية، ولكن علينا أولا أن نبلور هذه الرؤية ونحدد تلك الأولويات.