عن طريق أحد الأصدقاء، هاتفنى أحد الناس الطيبين- على ما يبدو- قائلاً: «كانت لابنى- المحبوس فى سجن برج العرب- قضية تبديد تافهة، المفترض أن يتم نظرها، اليوم الثلاثاء، فى محكمة الإسكندرية، تم التصالح مع الطرف الآخر، كان المفترض تقديم محضر الصلح فى جلسة اليوم، حتى نحصل فوراً على البراءة، ويقضى ابنى العيد بين أطفاله وزوجته، للأسف لم تنعقد المحكمة لسبب غريب جداً، هو أن نفس يوم نظر القضية صادف مباراة الأهلى وآسيك الإيفوارى!».
العلاقة أيها السادة بين القضايا التى كان من المفترض نظرها فى محكمة الإسكندرية ومباراة الأهلى غريبة جداً، رغم أن المحكمة تعقد جلساتها صباحاً، والمباراة تبدأ بعد الإفطار، أى لا توجد أى علاقة زمنية، إلا أن العلاقة الأمنية لم تشفع لهذا الفارق الزمنى، فلم يتم نقل المتهمين من السجن إلى المحكمة.
تحدثت مع أحد المسؤولين عن الأمن السكندرى، كانت إجابته أغرب: إن طاقة وإمكانيات الأمن لدينا لا تستطيع نقل وتأمين مساجين، فى نفس يوم تأمين مباراة، كما أن عملية التأمين فى هذه وتلك، فى موقع واحد، وهو برج العرب، حتى وإن كانت المحاكمة داخل الإسكندرية، فى المنشية تحديداً.. بهذا المعنى يمكن وقف انعقاد المحاكم فى القاهرة، فى حالة إقامة مباريات بها فى نفس اليوم، وعلى هذا أيضاً يمكن القياس فى كل مدن المحروسة، مسؤول أمنى آخر زعم أن الموضوع له علاقة باحتفالات وهواجس الثلاثين من يونيو، بمعنى أن عدم نقل المساجين يوم 28 قد يكون ضمن عمليات التأمين ليوم 30، وهو بالطبع كلام غريب أيضاً.
لنا أن نتخيل أن عشرات ومئات المساجين، تم تأجيل قضاياهم تلقائيا إلى شهر أكتوبر فى معظم الأحوال، بجرة قلم، لمجرد أن الأمن «ريّح دماغه» فى أبسط توصيف للموقف، حتى الذين كان سيتم عرضهم على النيابة للنظر فى الحبس الاحتياطى، بالإفراج أو التجديد، لم تبادر جهات الأمن إلى إحضارهم أيضاً، رغم أنهم أصبحوا محبوسين على خلاف القانون، بانتهاء مدة الحبس، وهو ما كان يُحتم على النيابة التصرف فى مثل هذه الحالات بالإفراج، إذا ما شعرت أن السلوك الأمنى غير مقنع، وإذا أخذنا فى الاعتبار ما يتعلق بالواقعة التى نحن بصددها أن الخميس إجازة الثلاثين من يونيو، والجمعة إجازة طبيعية، يبقى «سلم لى ع المترو».
القضايا هنا سياسية، أو جنائية، أو أحوال شخصية، كلها فى النهاية ينطبق عليها نفس الموقف، القرار الأمنى هو: لن يتم نقل مساجين عموماً اليوم من برج العرب، بالتأكيد الأمر لا يتعلق بمباراة آسيك فقط، بالتأكيد يتعلق بكل مباريات الأهلى والزمالك إن لم تكن كل المباريات التى تُقام على أرض ذلك الاستاد، دون أى اعتراض أو امتعاض من المحكمة أو القضاء عموماً، باعتباره ممثل العدالة، التى يمكن أن تتجاوزها الجهات الأمنية.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه فى بداية ستينيات القرن الماضى، أصدر النائب العام حينذاك، المستشار محمد عبدالسلام، قراراً لأول مرة، بضرورة تواجد وكلاء نيابة بالنيابات الكلية، فى أيام الجمعة والعطلات الرسمية، لنظر كل الأحداث والقضايا التى تقع خلال هذه الأيام، وذلك بعدما ثبت تعسف الشرطة مع المتهمين بإلقاء القبض عليهم خلال العطلات، تنكيلاً بهم، فى غياب النيابات، إلا أنه الآن يتم إهدار هذه المكتسبات بتلك الطرق الملتوية.
أعتقد أننا أمام قضية خطيرة للغاية تتعلق بمستقبل مواطنين مساجين أو محبوسين، أى ليسوا فى رحلة ترفيهية، يمكن أن تقصر أو تطول، تتعلق بمستقبل أُسر وعائلات تعانى نتيجة غياب عائلها، تتعلق بمنظومة العدالة فى مصر ككل، تتعلق أيضاً بتلك اللامبالاة، التى تصل إلى حد تأجيل عرض المتهمين على النيابة لأجل غير مسمى، أو تأجيل نظر قضية لعدة شهور.
بالتأكيد كل الجهات المسؤولة تدرك كم يُمَثل يوم نظر القضية بالنسبة لأطرافها ولأسرهم، الذين يأتون أحياناً من محافظات بعيدة، كم يمثل ذلك اليوم لأصحاب الحق والمظلومين، كم يمثل بالنسبة لتحقيق العدالة عموماً، لذا كان من المهم تدارك هذا الأمر على وجه السرعة، إما بزيادة عوامل التأمين لهذه وتلك، وإما بإيجاد حل لهذه المعضلة، بما لا يجعل هناك تضارباً من أى نوع، حتى لو اقتضى الأمر عدم إقامة مباريات رسمية على ذلك الاستاد، الذى يبدو أنه أُقيم فى هذا المكان دون أى دراسات مسبقة، أو أنه كانت هناك دراسات لم تحصل على حقها من البحث والتريث.
لماذا أُقيم الاستاد بجوار السجن، أو العكس، سؤال لابد من فك شفرته لصالح هؤلاء المكلومين الذين يعانون دون أى ذنب، إلا أنهم كانوا ضحية الإهمال أو الجهل، أو هما معاً، وهو ما يجب أيضاً مراعاته مستقبلاً فى إنشاء السجون التى ما أكثرها فى هذه المرحلة، ناهيك عن أن أوضاع السجون لدينا ليست بذلك القدر من البغددة، التى يمكن بموجبها التجاوز عن أى أوضاع استثنائية، أو قضاء أيام إضافية.
هناك أزمة حقيقية فى التقاضى، قد لا يدركها إلا الذين عانوا منها، اسمها التأجيل الإدارى، أى دون نظر القضية، قد يكون من حظ المتقاضين العاثر تأجيلها إدارياً عدة مرات متتالية، بما يصل إلى العام، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة، التى صادفت الجلسات انتخابات تلو الأخرى، واستفتاء بعد الآخر، وإجازة رسمية فى أعقاب إجازة أمنية إجبارية، وهكذا، إلا أن الجديد هو تلك النكسة التى تتمثل فى عدم نقل المحبوسين لأن هناك مباراة فى كرة القدم.
لا أدرى هل نحن أمام دعابة، أم دراما، أم أزمة أخلاقية، أم أن ذلك أمر طبيعى فى شبه الدولة، لا أدرى كيف أن المسؤولين عن العدالة فى محافظة الإسكندرية لم يحركوا ساكناً لتلافى هذه الأزمة المتكررة، لا أدرى كيف أن ضمائرهم لم تتحرك، لا أدرى كيف أن الأمر لم يصل إلى المسؤولين فى العاصمة للتوجيه بتداركه، هل أصبح الإنسان كماً مهملاً إلى هذا الحد من وجهة نظر المسؤولين، هل أصبح السجن أو الحبس من وجهة نظرهم إجراءً طبيعياً، لا تهتز له المشاعر.. حسبنا الله ونعم الوكيل.