كنت فى لندن، أغطى مباحثات بين دول الخليج المنتجة للبترول.. وشركات البترول العملاقة، صاحبة الامتيازات الرهيبة فى المنطقة، وكانت هذه الدول تطلب زيادة سعر البرميل مجرد نصف دولار.. تخيلوا!! كانت بداية المباحثات يوم 4 أكتوبر 1973، وعندما انتهت الجلسة الصباحية - وكانت فى أشهر فندق فى لندن.. ركبت مترو الأنفاق عائداً إلى فندقى بميدان بيكاديللى وما إن صعدت إلى الشارع حتى قرأت على «سبورة» موزع الصحف فى مخرج هذه المحطة الأشهر.. كان عليها عبارة واحدة «الحرب.. فى الشرق الأوسط»، واشتريت هذه الطبعات المسائية لأنطلق إلى الفندق.. وفى «ليستر اسكوير» القريب لميدان بيكاديللى، وعلى بعد خطوات من الحى الصينى الشهير لمحت مطعماً صينياً يعرض فى واجهته الزجاجية وجبة عبارة عن «حنشان.. بعسل النحل» فى طاجن يسيل له لعاب الشبعان وليس الجائع فقط.. ودخلت المطعم، وسألت: متى تغلقون؟ قالوا فى العاشرة مساءً، ودفعت ثمن الطاجن مقدماً على أن أعود لتناوله فى التاسعة والنصف.. إذ كنت صائماً - يوم العاشر من رمضان - وكان الغروب وقتها التاسعة و45 دقيقة.
وانطلقت إلى مقر السفارة المصرية وكان سفيرنا أيامها كمال الدين رفعت، وكنت أعرفه منذ كان رئيساً لمجلس إدارة «أخبار اليوم»، بعد التأميم.. وأخذنا نتابع أخبار الحرب - وهى فى يومها الأول - من خلال أجهزة التيكرز والاتصالات مع الصحف البريطانية، وقبل أن يحين موعد الإفطار اعتذرت للسفير، بأننى حجزت إفطارى الشهى.. وانطلقت إلى المطعم الصينى.. وبدأت «مراسم» تقديم طاجن الحنشان بعسل النحل.. بدأت ببراد من الشاى الصينى الأخضر دون سكر، لفتح الشهية.
وجاءنى الطاجن: كان «يبقبق» بفعل حرارة الفرن، حجم الحنشان كان مثالياً - تماماً كما كان أبى يقول لى - أى الحنشان القصير.. التخين.. وليس الرفيع الطويل، وبالمناسبة إياكم واختيار البورى الرفيع الطويل لأنه كثير الشوك والعضم!! يعنى الحنشان «المربرب» وصنع فيه الطباخ شرائح واسعة أعلاه.. ملأها بعسل النحل.. وحول الحنشان الكثير من الأعشاب الجافة والطازجة.. وسط بحر من الصويا صوص والكثير من صويا «شوربة الكابوريا وقشر الجمبرى ورأسه» وشرائح من الخبز يشبه خبز التورتلا المكسيكى الشهير بتوابله وتحميصه.
وهات يا أكل.. ليس فقط لأننى كنت صائماً جائعاً.. ولكن بسبب لذة هذا الحنشان.. بالعسل!! وقد يتعجب البعض: سمك بالعسل.. أقول نعم: هى نظرية الحلو بالحادق «سويت أند ساور» حتى تعرف لذة ما تأكل بسبب المتناقضين.. الحنشان والعسل.. وكنت أتبع كل هذا بفنجان من الشاى الصينى الأخضر.. كمادة هاضمة، وللأسف لم أستطع أن أطلب طاجناً ثانياً.. فالمطعم على وشك الإغلاق.. وتخيلوا سمك الحنشان، أى ثعبان البحر، ووجه محمر.. مقمر.. بقشرته السميكة.. ولكن العسل جعلها لينة مع قرقشة لذيذة.. ولم أطلب حتى طبق سلطة لأنهم فى المطاعم الصينية لا يحبذون هذه السلطات كثيراً.. ولا حتى سلطة الكرنب.
ولم أعرف كم من الوقت استغرقت فى تناول هذا الطاجن الرهيب الذى كان عبارة عن قنبلة موقوتة محشوة بما لا تتخيله من «مقويات» أو من منشطات.. إذ المعروف عندنا نحن أبناء السواحل أن المقويات والمنشطات البحرية هى الأفضل - حتى بعد اختراع الفياجرا وتوابعها - وبالذات من الجمبرى، وهو أنواع، أفضله الجمبرى الصغير أى المشابه لليرقات وللدود.. وسعره أغلى كثيراً من الجمبرى الجامبو، وللأسف المصرى يعشق الجامبو.. وهذه رؤية خاطئة «لفوائد الجمبرى» ثم نجد المنشطات فى الأستاكوزا.. أى «اللوبيستر» ويشترط أن يكون طازجاً «حياً» قبل إسقاطه فى المياه وهى تغلى.. ثم الكابوريا.. وهناك نوع من الجمبرى يقال له «أم الروبيان» أى أم الجمبرى وهو قصير ولكنه تخين ولحمه كثير.. وإياك أن تقوم بسلق أو «شى» الجمبرى مدة طويلة سواء كان مقشراً أو بقشره.. لأنه وقتها يتحول إلى قطع من الكاوتش.. وبالمناسبة أكلت الجمبرى الصغير فى بانكوك دون أى طبيخ أى «بالصوص فقط.. أو بالليمون» كما نفعل مع القواقع البحرية التى تؤكل «نية» أى دون أى طبيخ.. فقط عصر ليمونة!!
■ ■ وأعود إلى طاجن الحنشان بعسل النحل.. وأقسم أننى أحسست وقبل أن أغادر المطعم الصينى أن رأسى، بل كل جسدى، «بينور» يعنى يشع من أثر هذا الحنشان.. ومن المؤكد أن العسل «عمل عمايله» مع الحنشان.. ودهن الحنشان.. مع «الصوص» وشرائح الطماطم.. ولم يكن جسدى وحده هو من «ينير»!!
■ ■ وأقسم أننى - الآن - وبعد مرور 43 عاماً - مازال طعم هذا الطاجن فى فمى، حتى الآن، أقول ذلك لأن حرارة عبور قواتنا المسلحة فى هذا اليوم «10 رمضان - أكتوبر 1973» ربما تكون قد زادت.. ولكن السر كله.. يكمن فى «الحنشان وعسل النحل».