مذكرات ثائر لم يشارك في الثورة (7)

وليد علاء الدين الإثنين 27-06-2016 22:26

قبل مسافة طويلة من كوبري قصر النيل تأكّدَ لي ما تداولته وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بشأن حرق وتدمير مبنى الحزب الوطني الديمقراطي الذي يَشغل واحدًا من أفضل الإطلالات على نيل العاصمة.

لا شىء يشبه الواقع، وكما تقول «الست» أم كلثوم في واحدة من أقدم أغنياتها من كلمات أحمد رامي: «شُفت بعيني ما حدّش قاللي»، شُفْتُ بعينيّ الدخان يتصاعد من نوافذ المبنى المكلل بالسواد، وشممت رائحته التي ما زالت عالقة بأجواء المكان، ورغم إحساسي بأن اللون الأسود «المهبب» مناسب تمامًا لصورة هذا المبنى الذهنية وتاريخه عند الكثير من المصريين، إلا أنني للمرة الثانية في اليوم نفسه، وجدتني أتساءل: مَنْ المستفيد من حرق وتخريب المباني بهذه الطريقة المؤسفة؟

وإذا كان فضولي أمام معرفة أسباب حريق «كازينو الليل» قد شفاه منذ ساعة تقريبًا عاملُ محطة البنزين بإجابته، فإن فضولي هذه المرة يصحبه إحساس بخيبة الأمل لن تكفيه إجابة مهما بدت منطقية.

يتداول المصريون قصصًا، تتوه فيها الفوارق بين الحقيقة والخيال، عن غرفة داخل هذا المبنى تُسمى «غرفة جهنم»، يقولون إن صفوت الشريف – أمين الحزب منذ 2002 وحتى أقاله مبارك كأول ضحية أمام هدير الشعب- يحتفظ فيها بالملفات السوداء لقيادات المجتمع من فنانين ومفكرين ورجال أعمال، وبالطبع الوزراء وغيرهم من سياسيين، لم ينج من الفكرة حتى لاعبو كرة القدم، بالطبع لك أن تتخيل مقتنيات هذه الغرفة السرية من تهم ملفقة وتسجيلات صوتية أومرئية، أو مستندات ووثائق تثبت معاملات وعلاقات مشبوهة.. وغيرها من أشكال أبدعتها أذهان المصريين عن حكامهم الذين امتلكوا مقدرات بلدهم عقودًا طويلة لا كبير لهم ولا رادع يردعهم، هذه الغرفة باختصار المصريين البليغ تضم «بلاوي متلتلة» كفيلة بأن تُلزم أصحابها بالصمت إلى الأبد أو الخروج من الحياة إذا فكر أحدهم أن يُخالف الأوامر أو يغرد خارج السرب.

هل يمكن أن يكون هذا التصور «المافياوي» عن حكومة مصر صحيحًا؟ لا أحد يعرف، ولم يعد بإمكان أحد أن يعرف الآن، تحديدًا بعد احتراق المبنى المهيب!

أخذتني الأفكار وأنا أحدق بعيني في دخان حريق المبنى الرمز، وأشعر بالأسف على ضياع فرصة التحقق من هذه الأسطورة التي ستظل معششة في الأذهان.

أشعر بالأسف عندما يجعلنا الغضب والرغبة في الانتقام نُغفل فرص وإمكانيات معرفة ولو أجزاء من الحقيقة عن طريق ما نعدمه من أشياء أو من نعدمهم من بشر، شعرت بأسف شديد على إعدام صدام حسين، اتفنا معه أم اختلفنا، لقد أُعدمت ذاكرة لا شك في أنها كانت تعرف الكثير والكثير مما لا يعرفه غيرها في هذا الكون، شعرت بالأسف البالغ على الطريقة التي قُتل بها القذافي، والتي قتلت معه «صندوقه الأسود» وبددت كل أمل في استنطاق ذاكرته أو ضميره أو خبراته بعد أن تتغير الأيام.

هذا الشعور بالقلق على تدمير الصندوق الأسود لمبارك كان دافعي للكتابة بعد أيام قليلة من وجودي في ميدان التحرير، عندما طلبت مني الصحفية السورية فاطمة عطفه المشاركة ككاتب مصري في استطلاع رأي حول الثورة، نشرته صحيفة القدس العربي بتاريخ 4 فبراير 2011، كان شعوري بالخوف من احتمال ضياع فرصة معرفة الحقيقة هو المسيطر على كلماتي، مقابل الحقيقة يمكننا التنازل عن الكثير من الحقوق، كتبتُ التالي:

«ألخص رؤيتي في نداء أتوجه به إلى الإنسان والمواطن المصري محمد حسني مبارك، الذي أعلنَ في خطابه الأخير أنه قد خدم مصر على مدار أكثر من ثلاثين عامًا سلمًا وحربًا.

أقول له: مستعدون أن نغفر لك كل ما بدر منك خلال السنين الثلاثين، وأن نبحث لك في أعمالك عن حسنةٍ لقاءَ كل سيئة، وإذا نضبت حسناتُك قبل سيئاتك سنزيدك من عندنا لترجح كفة الحسنات، كما أننا مستعدون لغض النظر تمامًا عن فكرة المُساءلة والمحاكمة والعقاب، أو تدقيق الثروات والممتلكات، كل ما طالته يداك أو أيدي أسرتك سيكون مكافأة نهاية خدمة لك، فضلًا عن ذلك سوف أقود بنفسي حملةً لبناء تماثيل لك في عدد من أبرز ميادين مصر بالحجم الطبيعي.

في المقابل، لنا فقط مطلبان، أولهما أن تختم خدمتك الطويلة تلك بعمل جليل سوف يذكره لك التاريخ: فما دمت راحلًا راحلًا، فارحل بعمل سوف نسجله لك على قواعد تماثيلك، أن تقوم بتسليم السلطة بشكل سلمي- يحقن دماءنا ودمك- لحكومة انتقالية تلتزم أمام الشعب بتعديل الدستور فيما يخص تداول السلطة وتحديد فترات ومدد البقاء في الحكم، وفض المجالس النيابية الزائفة وإلغاء العمل بقانون الطوارئ وإجراء كافة التعديلات التي تعيد للمصري آدميته وكرامته وذاته التي انتفض من أجل استعادتها.

المطلب الثاني، وطالما أننا أعطيناك الأمان، أن تروي لنا من مقرك الذي تختاره تحت سماء مصر عن الحقيقة كاملة بكل تفاصيلها، ما كان يدور خلف الكواليس، كواليس السياسة والاقتصاد، بهدف نبيل تساعدنا في تحقيقه: أن نتجنب ما يمكن تجنبه من مكائد الأعداء ومن يتربصون بمصر، سوف نستمع إليك وقتها كمن يستمع إلى خبير محنك، نستفيد ونفهم، دون لوم أو عتاب، وربما تجد- أنت نفسك- في ذلك راحة من ذنب قد يصعب عليك حمله ذات يوم بينما تراجع مسيرتك في راحتك الطويلة.

سيدي الرئيس، أرجوك لا تُثقل ميزانك بدماء المصريين، لأن الحساب سوف يكون ثقيلًا: حساب الشعب وحساب الضمير وحساب التاريخ، سيدي الرئيس أمامك فرصة قد لا تتكرر لأن تسجل اسمك في التاريخ كقائد نزل على رغبات شعبه وأعاد لمصر كلها كرامتها.. أمامك هذه الفرصة.. بينما أراك ذاهباً برجليك إلى لعنة الشعب والتاريخ، الخيار أمامك فتعقل، أرجوك تعقل».

اقتربنا من كوبري قصر النيل التاريخي، أول جسر عبور على النيل بين القاهرة والجزيرة، اندمجنا وسط حشود البشر المنطلقة بحماس واضح صوب ميدان التحرير، الناس يحثون الخطى صوب الميدان فرادى وجماعات، قادمين من كافة الاتجاهات، وكأن مذبحة لم تقع هنا بالأمس! وكأن أعينًا ووجوهًا لم تُحرقها قنابل الغاز! وكأن شبابًا لم تدهسهم سيارات الأمن المركزي على أسفلت هذا الكوبري العريق قبل أن يضطرهم إصرار المصريين، هُم وكل جهاز الشرطة، إلى التراجع والانسحاب التام من المشهد، معلنين بداية سيناريو الفوضى الذي هدد به مبارك في خطابه الشهير: «يا أنا يا الفوضى». وهي الفوضى التي سوف تجعل من رحلة خروجنا في المساء من ميدان التحرير قاصدين شقة سامح في الهرم، مغامرةً في شوارع القاهرة والجيزة كادت تُودي بحياة أحدنا على الأقل أو تفقده جزءًا عزيزًا من جسده، تفاصيل لم أكن لأصدقها لو لم أعاينها بنفسي ولاتهمت من يرويها لي بأن «خياله واسع حبتين».

روابط الحلقات السابقة:

- الحلقة الأولى.

-الحلقة الثانية.

- الحلقة الثالثة.

- الحلقة الرابعة.

- الحلقة الخامسة.

- الحلقة السادسة.