اختبار للديمقراطية

إبراهيم الجارحي الأحد 26-06-2016 21:24

تواجه الديمقراطية البريطانية العريقة واحدا من أصعب الامتحانات في تاريخها بعد أن صوت الشعب على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وصار من الواضح أن الهزة التي تسبب فيها هذا التصويت ستطال الاتحاد الأوروبي، والوحدة البريطانية، وأشياء أخرى كثيرة، من بينها فتح نقاشات – ولو عابرة – حول صلاحية الديمقراطية كنظام مطلق للحكم.

كانت نتيجة الاستفتاء على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي مفاجئة للمراقبين، بل وللداعين للانفصال أنفسهم الذين كان أقصى ما يتوقعونه هو أن يخسروا بفارق بسيط، وبدا الأمر لي بعد متابعة يومين للصحافة البريطانية أن الكتلة التصويتية البريطانية اتخذت قرارا أكثر جرأة من قدراتها.

سرت الدعوات على الفور في اسكتلندا إلى إعادة الاستفتاء على الانفصال عن بريطانيا، بعد أن فقدت بريطانيا عضويتها في الاتحاد الأوروبي التي كانت ميزة فاصلة في تصويت الاسكتلنديين لصالح البقاء تحت التاج البريطاني، أما الآن فالاسكتلنديون يعرفون – ومعهم الأيرلنديون الشماليون – أن اقتصادهم لن يصمد طويلا مع بريطانيا وحدها.

وكشفت النتائج التفصيلية للتصويت أن سكان اسكتلندا وأيرلندا صوتوا بأغلبية كاسحة لصالح البقاء في الاتحاد، بينما صوتت إنجلترا وويلز بالعكس تماما وبنفس النسبة لصالح الانفصال.

ومن الوارد جدا أن تتفكك بريطانيا على هذه الخطوط، ومن الوارد أيضا أن تسعى شعوب أوروبية أخرى إلى الخروج من الاتحاد بعد أن بينت التجربة البريطانية أن البقاء داخل الاتحاد ليس مسألة مسلم بها، ومن المؤكد أن الاستفتاءات ستتحول خلال سنوات قليلة قادمة إلى وسيلة لتفكيك كتل كبيرة.

وهنا يمكن القول إن الديمقراطية التي عملت بالتوازي مع النظام الرأسمالي على تكوين تكتلات اقتصادية وسياسية عظمى، توشك الآن على القضاء بنفسها على هذه التكتلات.

والمشكلة ليست كما يرى بعض المتعجلين في الحكم مقدمة لصعود اليمين إلى الحكم في أوروبا، على الرغم من أننا ننتظر معركة انتخابية في فرنسا العام القادم لا أتصور إلا أن اليمين سيهزم فيها اليسار الفرنسي التاريخي هزيمة نهائية.

فاليمين قد صعد في أوروبا بالفعل، وهذه واحدة من نتائجه لا واحدة من مقدماته، والنتائج القادمة – خاصة بعد التفوق المتوقع لليمين في فرنسا – ستغير وجه أوروبا تماما.

ومن الطبيعي أن تنتبه أوروبا في هذه اللحظة الفاصلة إلى أن ديمقراطيتها تدخل إلى اختبار سلمي لم تتعرض له منذ الحرب العالمية الثانية، فالتيارات المتطرفة – والمعادية في باطنها للديمقراطية العولمية التي تمحق القوميات الخاصة – تحكم الموقف، وهي في طريقها إلى المزيد من السيطرة.

ونشرت صحيفة الاندبندنت صبيحة إعلان نتيجة الاستفتاء دعوة ديفيد لامي، عضو مجلس النواب عن حزب العمال، للبرلمان إلى تجاهل نتيجة الاستفتاء قائلا: «يمكننا أن نوقف هذا الجنون»، غير ملتفت إلى أن «هذا الجنون» هو رأي الأغلبية بحكم الديمقراطية الذي يقر الأعداد ويعترف بها أكثر مما ينظر إلى وجهات النظر النخبوية.

ولا يتصور لامي، ابن المهاجر ذي الأصول الأفريقية، أن شيئا لا يمكنه أن يوقف «هذا الجنون»، لأن المقصد هنا هو النظام الديمقراطي نفسه.

ولا يجب في السياق ذاته أن تنسى أوروبا التي تستعد للمزيد من جرعات اليمين القومي أن حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني بزعامة أدولف هتلر وصل إلى الحكم في انتخابات ديمقراطية، ولم يترك هذا الحكم إلا على جثث خمسين مليون إنسان، ودمار لم تشهده القارة في تاريخها.

الشاهد في هذا الموقف أن النظام الديمقراطي يخسر كثيرا أمام الروح القومية، وأن صعود التيارات القومية يكشف على الفور هشاشة النظام الديمقراطي الذي يمكن أن يضمن تصدر هؤلاء القوميين للمشهد، على الرغم من أنهم بالتأكيد لا يؤمنون بالديمقراطية بصورتها العالمية التي تستبيح خصوصياتهم القومية، ويؤمنون – على الأكثر – بنسخة من الديمقراطية تسمح للشعوب بحكم مصالحها الدنيا، بينما تظل مصالحها العليا – المرتبطة بالقومية بالضرورة – بعيدا عن انقسام الآراء وأهواء الديمقراطية.