الناس لا تحب الحقيقة، ربما من فرط تغييبها، وتسييد المكذوب وإشاعته، وحشو الكتب به، حتى صار الصدق مع النفس الكاتبة عملة نادرة.
وما إن يذكر المرء وقائع وأحداثاً فى تاريخ المسلمين، أثبتها المؤرخون الثقات من الأسلاف، حتى يُتهم بالكُفر والشطط والتجديف، مع أنه بإعمالٍ قليلٍ للعقل يمكن الوصول إلى الحقائق ذاتها.
صرتُ أشك فى أننى لو وضعتُ نصًّا قرآنيًّا أو حديثًا للنبى محمد، عليه الصلاة والسلام، ولم يكن النص على هوى الإجماع، وقلت كما قال أبوالعتاهية: «اللهُ كاف فَمَا لِى دُونَهُ كَافِ»، فسأُتَّهم أيضًا بأننى أذكِّر فقط بالمعايب والجرائم، وأطعن فى الإسلام، وكأن الدين مساوٍ لمن يدينون به، أو كأن تاريخ الإسلام هو نفسه تاريخ المسلمين؟
فليست الخلافة ديانة مقدَّسة، وليس الخليفة إلهًا ينبغى علينا عبادته.
وليس الحاكم- أى حاكم- إلهًا، وليس نبيًّا معصُومًا، يُوحى إليه، إذ هو ليس إلا مجرد كائنٍ بشرىٍّ يُخطئ ويُصيب، قادته المصادفة نحو الحكم، فلماذا يصطف بعض الناس أو بعض أصحاب القلم ليصلُّوا عليه ويسلِّموا تسليمًا كثيرًا، بحيث أصبحت ابتسامته سُورة، وتكشيرته آية، وسيارته أو دابته بُراقًا يسرى به ويعرُج، وصارت كل مفردة لديه نصًّا مقدَّسًا، ورحم الله أبا حامد الغزالى (450- 505 هـجرية/ 1058- 1111 ميلادية)، حين قال فى كتابه الأشهر (إحياء علوم الدين): (... وبالجملة، إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، فلولا القضاة السوء، والعلماء السوء لقلَّ فساد الملوك خوفًا من إنكارهم)، نحن من نصنع آلهتنا لنعبدَها، فلا ضير إذن أن ننعم فى استبداده، الذى أصبح صراطا مستقيما.
هناك حقائق كثيرة غائبة، لكنَّ كثيرين منَّا لا يريد أن يصطدم بها، لأنهم يبتغون العيش مع ما استقر فى أذهانهم، مُحافظين على ما وصل إليهم- بصرف النظر عن ضعفه أو كذبه أو ضلاله- مادام الأولون قد جاءوا به، لذا علينا أن نغربل الكثير من الكتب القديمة، وننخل مصادر التاريخ نخلًا دقيقًا وعميقًا، بحيث يُعاد كتابة تاريخ المسلمين من وجهة نظر الحقيقة العارية المُجرَّدة، وليس من وجهة نظر المذهب أو الطائفة، لأنَّ الغلط فى التاريخ يعُود فى الأساس للانحياز إلى القبلية والعشائرية والمذهبية وكثرة المِلل والنِّحَل داخل الدين الواحد، ويقينى أن هناك إسلامًا واحدًا فى الأصل، لكن مع تعدُّد المذاهب صار هناك «إسلامات» أو أكثر من إسلامٍ، وعلينا أن نقر أن هناك إلهًا واحدًا، ودينًا واحدًا للمسلمين، إذْ ليس فى الإسلام تعدُّد آلهة، كما أن القرآن كتابٌ واحدٌ، وكذا السُّنَّة الصحيحة البعيدة عن الخُرافات والخُزعبلات والأغاليط والأباطيل والأكاذيب، التى وضعها كُلُّ من كان فى نفسه أو قلبه غرض أو هدف سياسى بالأساس، بحيث لُفِّقت مئات الآلاف من الأحاديث، والتى لا تنطبق مع كتاب الله، ولا تتوافق مع العقل والمنطق، وتتجافى مع النفس السليمة، وما إن يتصدَّى أحد مشيرًا إلى بيت الخطأ، الذى هو داءٌ مقيمٌ بيننا، (وما أكثر بيوت الداء)، تُكال له الاتهامات وأقلها الاتهام بالكُفر والإلحاد، وإنكار المعلوم والصحيح من الدين الذى أجمع عليه العلماء، وهو كلام مرسل وفضفاض، وليس صحيحًا أو معلومًا، حتى لو جاء به إمام أو فقيه من الأسلاف أو المعاصرين، لأن كثيرين من هؤلاء قد غيَّروا آراءهم وفتاواهم كلما اقتضت الضرورة ذلك، كما أن كلامهم ليس نصًّا مُنزَّلا لم يأت به كتابٌ مُقدَّس، كما أنه ليس صادرًا عن إله أو رسول.
ومن المُفترض أن يعتبر المسلمون كتاب الله (القرآن) المقياس الوحيد للحقيقة، وليس أى كتابٍ أو قول آخر، لكن أكثر المُشتغلين بالدين، ما إن تُحاججه فى أمرٍ يخصُّ إمامًا أو فقيهًا، حتى يرفضك جُملةً وتفصيلا، ويُخرِجك من المِلَّة، كأن هذا الإمام أو ذاك الفقيه ربٌّ يعبده، ولا ينبغى المساس بأفعاله أو أقواله، أو التشكُّك فيما ترك من كتبٍ كُتبت فى الأساس لخدمة سيده السلطان، الذى ينتصر له ظالمًا ومُستبدًّا، أو سيده المذهب، الذى يقدمه على ما سواه، حتى ولو كان كتاب الله، لأن السلطة لن تكون أبدا- مهما يكن- الوجه الآخر للحقيقة، حتى لو قال ذلك آخرون نحبهم، ونُعلى من شأن فكرهم وفلسفاتهم.
الحقيقة- كما أعرفها- كمالٌ، والكلمة العليا التى لا جدال حولها، والغاية التى نذهب نحوها، والتى من شأنها أن تُطفئ النار المشتعلة بين الخير والشر، وبين الأصل والزيف، وبين الصدق والكذب، وبين الصواب والخطأ، هى ما يرجوه المرء فى ماضيه وحاضره، لأن الحقيقة هى التى تبنى وتُؤسِّس، وقبل هذين الفعلين، تهدم وتُقوِّض كل ما لا يستسيغه العقل السَّوىّ، وتُدركه النفس الصحيحة بحسِّها وحدْسِها، والحياة الحقة للإنسان هى العيش سعيًا نحو إدراك الحقيقة وتربيتها، والدفع بها، والدفاع عنها، وتقديمها على ما دُونها.
والحقيقة- عمومًا- تُعطَى وتُمنَح، ولا تُبنى أو تُجمَّل أو تُجزَّأ، لذا ينبغى نقد ومُراجعة ومُساءلة ما اكتُسِبَ من معارف، وإعادة البناء يحتاج إلى هدم وليس إلى ترميم، وإلى اليقين والجديد، وليس الكذب والتجديد، ومن ثم لابد من التخلُّص مما اعتقده الناس حقائق مطلقة، مادامت صادرة عمَّن أطلق عليهم الفقهاء والعلماء والأئمة، واستبعاد كل ما لا يمكن للعقل أن يقبله، وهنا يتوجَّب إعمال العقل لا الرأى، لأن الحقيقة كالنور، لا يمكن التغطية أو التعتيم عليها، ليست فى حاجةٍ إلى تأكيد أو كشف، لأنها بطبيعتها كاشفة ومُنيرة، لكننا من فرط الجهالة، وإرهاب الرأى الواحد، وكثافة المراجع الدينية وتناقضها وتضارب مصالحها الدنيوية، صار كلام الفقيه أو الشيخ أو الإمام هو النافذ قبل كلام الله ورسوله.
فى التعرُّف إلى الحقيقة أعوِّل دومًا على الحدْس، ونور العقل، والذهن الصافى المتوقد المتجلِّى الخالى من الشرور والأحقاد، والبصيرة النافذة، وبصر القلب حين يرى، لأن الباحث عن الحقيقة مُنزَّه عن الأغراض والمنافع الحياتية والمصالح المادية، ولا يمكن أن تكون هناك حقيقة فى ظل غياب الحرية والرأى المستقل القائم على الحوار والجدال والحِجَاج، وفى رأيى أن من يمتلك الحقيقة يمتلك السلطة، لأنه سيكون مُحصَّنًا، وبيته ليس من زجاج يمكن لأى عابر أن يحدفه بالطوب.