خواطر عن الحاسة الخلقية والخطايا السياسية

محمد نور فرحات الخميس 23-06-2016 21:44

قال مَن إذا تكلم وجب الإنصات وإذا كتب وجب الإمعان: ماذا ترون فى الحاسة الخلقية؟ هل هى نتاج الظروف الاجتماعية والتنشئة والثقافة؟ أم أنها موروثات جينية من الأصول وإن علوا إلى الفروع وإن دنوا؟ تساءل: بماذا تفسر أن أخوين جرت تنشئتهما فى بيئة واحدة وفى ظروف عيش مشتركة ومتساوية، أحدهما عدوانى فى سلوكه والآخر متسامح، أحدهما كاذب والآخر صادق، أحدهما إذا عاهد أوفى والآخر إذا اؤتمن خان، أحدهما مبادئه تتبع مصالحه الضيقة، والآخر تنبع مما يعتقده ويؤمن به وما يتبناه من مُثُل؟ وحَدِّث فى الفروق بين المتقاربين فى النشأة المتباعدين فى السلوك ولا حرج. قال: هذا يرجح نظرية الموروثات الجينية كعنصر حاسم فى النزوع الأخلاقى للفرد، فقد يرث أخ بعض الخصائص الجينية من أب أو أم، ويرث الآخر خصائصه من جد أو جدة لأب أو لأم على تعقد الشبكة الجينية. قلت: إن صح أن الأخلاق مرتبطة بالموروثات، ففيم الثواب والعقاب إذن؟ قال: عموما هذا حديث قديم من تراث المتكلمين المسلمين حول الجبر والاختيار شغل حيزا كبيرا من الجدال بين الأشاعرة والمعتزلة.

ولكن يبقى السؤال ملحّاً: هل هناك بشر سيئون يتنكرون لحاستهم الخلقية الفطرية وبشر يستجيبون لها؟ وما الذى يدفع بشرا بعينهم أو مجتمعات بعينها إلى طمس الحاسة الخلقية. ثمة حاسة خلقية تجعل الإنسان يدرك بالفطرة أن الكذب والنفاق والجبن والبخل والنميمة والاعتداء على حقوق الغير من الرذائل، وأن الصدق والكرم والشجاعة ونجدة الضعفاء من الفضائل، فلماذا يدير الناس ظهورهم فى ظروف معينة لهذه الحاسة؟

ثم، هل للدين أثر فى تكوين الأخلاق وصلابتها لدى الناس؟ الكتب السماوية كلها تنطوى على إعلاء من شأن الأخلاق. المسيحية تُعلى من شأن التسامح والصدق والمحبة. الإسلام ينهانا عن الفحشاء والمنكر والبغى، ويأمرنا بالعدل وأن نؤدى الأمانات إلى أهلها. وأخبرنا رسولنا الكريم أنه بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، وأمرنا بالصدق ونهانا عن الكذب والنفاق.

ليس أمر الأخلاق حكراً على تعاليم الدين، فقد شغلت قضية الأخلاق الذاتية ETHICS والأخلاق العملية MORALITY حيزا بارزا فى الفكر الفلسفى على مر العصور. وفى العصر الحديث حاول ماكس فيبر عقلنة الأخلاق وربطها بالدين فى كتابه الشهير عن الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية. وتحدث عن هذه الأخلاق المذهبية التى تقوم على العقلانية والشجاعة والتجديد، وكيف أنها أثرت على تطور الرأسمالية المعاصرة.

ولكن الأخلاق البروتستانتية، التى هى روح الرأسمالية فى نظر ماكس فيبر، لم تمنع النظم الرأسمالية من التوحش وأن تخرج فى موجات استعمارية تستنزف الشعوب وتقهرها، وارتكبت فى ذلك فظائع دموية تتنافى مع أولويات الحاسة الخلقية.

على مستوى العلاقة بين السلطة والناس فإن تعاليم الكنيسة الأخلاقية فى العصور الوسطى لم تمنع من إراقة الدماء وقمع المفكرين الزنادقة باسم الدين.

تأكيد الإسلام على التعاليم الخلقية لم يمنع الصراعات الدموية على السلطة منذ عصر عثمان، ثم علىّ، ثم معاوية، وما اصطُلح على تسميته «الفتنة الكبرى» وما تلا ذلك من فظائع، أشهرها ضرب الكعبة بالمنجنيق، وذبح المعارضين والتمثيل بهم، وقول عبدالملك بن مروان المشهور عنه: «والله لو أمرنى أحدكم بتقوى الله لقطعت رأسه»، ولم يمنع العباسيين من إطلاق فرق لذبح المعارضين بدعوى مكافحة الزندقة.

هنا لا تسعفنا إلا نظريات ومذاهب النفعيين والماديين، وفى مقدمتهم مكيافيللى الذى وصف عالم السياسة بأنه عالم القوة والدهاء، وجعل السلطة والقوة المادية هما محرك تصرفات السلطة السياسية، وأن السلطة فى واقعها بلا أخلاق لأن الغاية تبرر الوسيلة. وتبعه فى ذات التوجه فلاسفة الرأسمالية المحدثون، الذين جعلوا من مبادئ اللذة وجلب المنفعة وتجنب الألم القيم الكبرى فى عالم السياسة وفلسفة القانون. ومن هؤلاء جيرمى بنتام وآدم سميث ووليم جيمس وغيرهم، فما هو مفيد ونافع عندهم فهو حق وضرورى.

على أن الأمر تغير جذريا فى العصر الحديث بفعل ثورات الشعوب ضد الظلم ونمو الحركات والتنظيمات العمالية، وردود الفعل العالمية المستهجنة لفظائع الحربين العالميتين، واعتماد مبدأ الديمقراطية التمثيلية الذى يقوم على احترام إرادات الشعوب فى اختيار ممثليها، ونمو مبادئ حقوق الإنسان واتساع حركتها، كل هذه العوامل وضعت قيودا صارمة على مبدأ النفعية السياسية فى العلاقة بين السلطات الحاكمة وشعوبها، فأصبحت النفعية والبراجماتية مقتصرة على حكم العلاقات الدولية، مستترة وراء ميثاق الأمم المتحدة.

أما العلاقات الداخلية بين السلطة والشعب فقد أصبحت محكومة بقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. شعوب العالم الديمقراطى، اليوم، لا تتسامح فى كذب وخداع وتضليل. لقد أصبحت الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والشفافية والمحاسبة هى (الدين) الجديد للشعوب الحرة فى عالم اليوم.

مثلاً: ليس بوسع الدولة التى تحكمها أخلاقيات الديمقراطية أن تبرم اتفاقات دولية تثور حولها شبهات بالتنازل عن السيادة عن جزء من إقليمها دون أن تصارح شعبها، بل تقمع وتنكل بمَن يخالف أمرها. وليس بوسع الدولة الديمقراطية الحديثة أن تضع قانونا رئاسيا يشكل برلمانا على هوى السلطة التنفيذية ويسبح بحمدها ليل نهار. وليس بوسع الدولة الديمقراطية الحديثة أن تصدر قوانين غير دستورية غير عابئة باحترام الدستور. وليس بوسع الدولة الديمقراطية الحديثة أن تطبق قوانين تسمح لها بالبطش بشبابها المخالفين لها فى سياساتها، وليس بوسعها أن تسلط عملاء الأمن لديها لكى يخططوا بليل لاغتيال الحريات الصحفية وتأميم الصحافة ووسائل الإعلام والإجهاز على منظمات المجتمع المدنى. وليس بوسع الدولة الديمقراطية أن تجعل من محاربة الفساد مجرد شعارات وإعلانات فى الطرقات، فى الوقت الذى تقوض فيه البنية المؤسسية لمكافحة الفساد وتشهر بمَن يتصدون له. وليس بوسع الدولة الديمقراطية أن تتغافل عن احترام الحد الأدنى لمبادئ حقوق الإنسان، وأن تُعتم على انتهاكاتها، وأن تشجع أجهزتها القمعية على ممارسة هذه الانتهاكات، وأن تعمد إلى تشويه المدافعين عنها.

ليس بوسع الدولة الديمقراطية الحديثة أن تفعل ذلك وغيره، لأن النفعية فى علاقة السلطة بالشعب هى نفعية لصالح الشعب، تتوحد فيها مع الأخلاق ومع حرية الشعوب فى منظومة قيمية واحدة.

هذا على مستوى ممارسة السلطة. أما على المستوى الفردى وموقع الحاسة الخلقية كدافع لسلوك الأفراد فالأمر فيه ملاحظات:

أولاها: وجود رابطة عضوية بين الاستبداد وفساد منظومة الأخلاق الفردية للشعوب. نبه إلى ذلك عبدالرحمن الكواكبى، فى كتابه «طبائع الاستبداد». يقول الكواكبى: «الحكومة المستبدة تكون مستبدة فى كل فروعها من رأسها إلى أدنى مستويات المجتمع. والاستبداد هو وجه ملازم للفساد وانتشار سوء الخلق بين الخاصة والعامة».

قُدر لى أن أعايش مجتمعات ذات توجهات اجتماعية وثقافية متباينة خلال رحلتى طلبا للعلم أو أستاذا زائرا فى جامعات أجنبية أو خبيرا فى منظمات دولية. خبرتى بإيجاز شديد أنه: بصرف النظر عن التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للنظم الحاكمة، فإن أكثر العوامل تأثيرا فى سلوك شعب من الشعوب هو مقدار ما يتمتع به الشعب من حرية واحترام من الدولة لحقوقه وكرامته.

الحكومات المستبدة تدفع شعوبها دفعا إلى تبنى النفاق والكذب وتغليب الصالح الخاص على الصالح العام وابتداع الحِيَل تلو الحِيَل لتسهيل مخالفة القانون وممارسة الفساد بمأمن من العقاب.

وعلى العكس من ذلك كلما كان نظام الحكم أكثر ميلاً للديمقراطية واحترام كرامة شعبه شاعت بين الناس قيم الصدق والشفافية والإيثار والمروءة. لا يمكن فى نظام ديمقراطى حر أن تجد إعلاميين نهجهم الكذب والنفاق وإلباس الباطل ثوب الحق والحق ثوب الباطل نظير إرضاء الحاكم ومقابل دنانيره. لا يمكن أن تجد إعلاميا يتحمس إلى حد التشنج لمهاجمة ثورة قام بها شعبه من أجل العدل، أو آخر يدافع باستماتة عن حق دولة أخرى فى إقليم وطنه. الاستبداد العام مقدمة ضرورية لسوء الخلق على المستوى الفردى الخاص، بل التخلى عن قيم الوطنية والمواطنة.

ثانيتها: عن علاقة الدين بالأخلاق. لابد أن نميز بين أمور ثلاثة: الدين وفهم الناس له، والدين وقدرة البعض على استغلاله لمصالحه الخاصة، والدين ونمط التدين تطرفا أو تسامحا. كل الأديان تدعو إلى مكارم الأخلاق كما ذكرنا، ولكن فى فترات التدهور الحضارى والاستبداد السياسى والظلم الاجتماعى يتحول الدين عند الحكام والمحكومين إلى ستار لممارسة العنف بواسطة المحكومين والقهر بواسطة الحكام. ومع شيوع مناخ الغلو والتطرف يشيع التمسك بمظاهر التدين وحرفية نصوصه وتجاهل جوهره الإنسانى والقيم النبيلة التى يدافع عنها. عندئذ يصبح التدين الشكلى نوعا من الخداع يمارسه عديمو الخلق والمروءة بإطلاق لحاهم. وهكذا شهدت مجتمعاتنا أفاكين باسم الدين ومنافقين باسم الدين وسفاحين باسم الدين. والمشكلة ليست فى منابع الدين الصافية ولكن فى سيادة الجهل والفقر والاستبداد والتعصب، بما يجعل من الدين ذريعة للتنكر للأخلاق وممارسة كل الشرور.

وخلاصة الأمر أن الحاسة الخلقية أو الضمير الخلقى قابعان فى جوهر كل نفس بشرية، وأن نظرية الشر المتوارث أو الخير المتوارث عصية على التصديق، ولكن الاستبداد والظلم والفقر والجهل وسوء القدوة وانعدام المساواة وشيوع ثقافة التمييز وتغليب التدين الشكلى واستخدام الدين سلاحا لقهر الناس، كل هذا يهوى بالحاسة الخلقية سقوطا فى جرف سحيق تحت ركام ثقافة الظلم والنفاق والفساد الاجتماعى. ولهذا فمن صميم الأخلاق أن تقوّم الشعوب خطايا ساستها. والشعوب التى لا يعنيها أمر حكامها أخطأوا أم أصابوا هى شعوب سقيمة الوجدان ميّتة الضمير.

mnfarahat@yahoo.com