الخبر الأغرب من ادعاء سعودية جزيرتى تيران وصنافير هو ما صرح به مصدر من هيئة قضايا الدولة بأن الهيئة بصدد الطعن على حكم القضاء الإدارى الذى قضى ببطلان توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، لا أتصور أن محامياً مصرياً سوف يقف أمام المحكمة يتنازل بصوت عالٍ عن أرض بلاده، مرفقاً ذلك بمذكرة مرافعة، لا أتوقع أن قياداته فى هيئة قضايا الدولة سوف يوجّهون أبداً بذلك.
قد نجد ذلك فى وزارة الخارجية، على اعتبار أنها سياسة فى نهاية الأمر، قد نجد ذلك فى وسائل الإعلام، على اعتبار أنه نفاق للسلطة فى نهاية الأمر، يمكن أن نجده بين بعض البرلمانيين، على اعتبار أنه من أحاديث الإفك هناك، قد نجده بين بعض السياسيين وقادة الأحزاب، على اعتبار أنها ممارسات، لا مؤاخذة مُعتادة، إلا أن الأمر حينما يتعلق بالقضاء ورجال القانون فإنه يجب أن يصبح مختلفاً من كل الوجوه.
شُلَّت يد ذلك الذى يمكن أن يتقدم بطلب من هذا النوع إلى المحكمة من جديد، شُلَّ لسان من سيوجّه بذلك، شُلَّت تلك القدم التى يمكن أن تتوجه إلى المحكمة لتقديم أوراق فى هذا الشأن، أعتقد أن كل الألسنة الزائفة المشار إليها يجب أن تخرس فوراً منذ لحظة النطق بالحكم، بل يجب أن تعتذر للشعب، أليس هذا هو القضاء الشامخ، أم أنكم تستعيرون مصطلح الشموخ وقتما تشاؤون؟!
أعتقد أن الحكم التاريخى أمس جاء بمثابة انتصار للقضاء والعدالة، جاء أيضاً بمثابة رسالة للدولة المصرية، للشعب المصرى، للتاريخ، للجغرافيا، للسياسيين، للبرلمانيين، للإعلاميين، للدبلوماسيين، لدول الجوار، للعالم أجمع، وهو ما يجب أن نتمسك به من كل الوجوه، هو ما يجب أن نفخر به، هو ما يجب أن نفرح به، ولا نسمح لأحد بأن يُفسد علينا هذه الفرحة، التى لا تضيف لنا أرضاً ولا عِرْضاً، هى فقط تحافظ على أرضنا وعِرْضنا.
أتوقع ألا يسمح وزير العدل بمثل تلك الطعون الرسمية التى سوف تسىء إلى كل شىء من جديد، خاصة أن دائرة الإدارية العليا لن تكون أبداً أقل وطنية ولا إخلاصاً لبلادها من دائرة أول درجة، أى أن هذه الإجراءات فى النهاية مجرد تحصيل حاصل، إلا أنها تمثل إساءة جديدة للدولة المصرية، التى شابها الكثير من الإساءات خلال الشهور الماضية تحت هذا العنوان «تيران وصنافير»، وهو ما يجب أن يؤخذ فى الاعتبار، لنصبح بذلك أمام منظومة تسعى إلى التطهر، بدلاً من الإمعان فى الوحل.
الحكم الذى صدر أمس، أيها السادة، هو إضافة جديدة لتاريخ الشعب المصرى ككل، ليس للقضاء فقط، هو وسام على صدر هذا النوع من القضاء الذى نأمل أن يستمر فى أداء دوره بهذه الروح الوطنية، بمنأى عن تأثير السلطة الرسمية، أو حتى ضغط الشارع، هذا الحكم الذى فرض نفسه كحدث أول وأهم على كل وسائل الإعلام العالمية، فى توقيت كان القضاء المصرى فى حاجة إلى مثل ذلك الدعم دولياً وإقليمياً.
من هنا، لا يجب أن ترى السلطة التنفيذية نفسها أبداً فى وضع المهزوم، نحن هنا نتحدث عن مصر، كل مصر، لم تكن مصر أبداً جُزراً وأحزاباً منعزلة، مصلحة الدولة المصرية هنا هى الأهم، بمعزل عن وجهات النظر المختلفة، أو تباين الرؤى، حكم المحكمة أمس يجب أن يجمع الدولة المصرية، ولا يفرقها، ما على المخطئ إلا أن يعترف بالخطأ ويعتذر دون مكابرة، لا غضاضة فى أن نرفع القبعة لأولئك الذين حملوا على عاتقهم مهمة اللجوء إلى القضاء لإثبات الحق التاريخى المصرى فى الجزيرتين، بالتأكيد بذلوا جهداً كبيراً فى سبيل الحصول على الوثائق التى تدعم موقفهم، خاصة أن معظمها جاء من خارج مصر لأسباب معلومة.
يجب أن نعترف بأننا كنا أمام قضية واضحة المعالم والحقوق منذ البداية، الحلال فيها بيِّن كما الحرام منذ اللحظة الأولى، وثائقها كانت ناصعة لا لبس فيها، كتب التاريخ، كما خرائط الجغرافيا، كما الرواة والمؤرخين، الكثير من الوثائق فى مكتبات ودواوين العالم كانت تؤازرنا، حتى بعض الوثائق والكتب من السعودية نفسها، إلا أنها أزمة فرضت نفسها لأسباب فى علم الغيب، بعضها سوف يكشف عنه المستقبل بالتأكيد، سوف يكشف عنه التاريخ، كغيره من الكثير الذى مازال تحت الرماد.
على أى حال، سوف يظل القضاء فى مصر هو الملاذ الأخير للعدل والإنصاف، حتى وإن شابه الكثير من اللغط خلال السنوات الأخيرة، وهو ما جعلنا ننادى دائماً بأن يعمل على تطهير نفسه بنفسه، دون تدخل من هنا أو هناك، سوف تظل الحقوق المصرية أرضاً وعِرْضاً مصونة ومحفوظة بعون الله سبحانه وتعالى أولاً، ثم بعد ذلك بيقظة أبناء هذا الشعب، الذى بذل الكثير فى السابق من الجهد والدم والمال، فى سبيل الحفاظ على تاريخه ومستقبله، ومازال يبذل وسيظل، وبالتأكيد من هو كذلك لن يُفرط أيضاً فى نقطة من مياه النيل، ذلك الحق التاريخى، الذى أعتقد أنه معركة المصريين المقبلة على كل المستويات، الشعبية، والقضائية، والتنفيذية، والعسكرية، وحتى هيئة قضايا الدولة.