مذكرات ثائر لم يشارك في الثورة «6»

وليد علاء الدين الإثنين 20-06-2016 22:20

‫كنا قد اجتزنا الشوارع الخلفية التي قادني سامح عبر دهاليزها إلى أن صرنا في شارع الهرم، مباشرة أمام كازينو الليل، كانت لوحة الكازينو الرئيسية مكسورة ومنهارة، واللوحة الدعائية المقابلة له ممزقة.

من الجهة المقابلة للشارع استطعنا أن نرى مدخل الكازينو مغلقًا بألواح خشبية، ثمة تجمع من الرجال يحوم حوله، وآثار حرائق وبقايا زجاجات وأخشاب ملقاة على أرضية الساحة الواسعة المقابلة.

كنا- سامح وأنا- كأنما اتفقنا على الصمت، أو أننا أدركنا من دون اتفاق أن كلًا منا في حاجة إلى صمت يجتر خلاله تصوراته وذكرياته وأفكاره التي تستدعيها تلك اللحظات.

لم تُفلح كل مشاهد التخريب التي طالعتنا بمجرد دخولنا شارع الهرم في انتزاع أحدنا من صمته، بينما نجح «توك توك» صغير -كان يركض كالفأر الأسود في الاتجاه الآخر من الشارع- ليس في قطع صمت سامح فقط، بل في انتزاع صرخة دهشة خرجت من أعماقه كالطلقة:

- «توك توك ماشي بالعكس في شارع الهرم! دلوقت بس اتأكدت إن في ثورة قامت».

كاد فضولي لمعرفة سر تدمير «كازينو الليل» يقتلني، هل هي ثورة دينية؟ هل ثار الناس من أجل تكسير كازينو؟ ما الرمز الذي يحمله كازينو الليل في معادلة الشد والجذب بين الثوار والسلطة؟

كان سامح منهمكًا في توثيق المشاهد بعدسة الكاميرا التي أتاح له حجمُها الصغير تخبئتها في جيبه بعد ذلك عندما شعرنا بالارتياب. لكنه شاركني الفضول، ربما كانت عصابة لصوص دخلت المكان بداعي السرقة؟ ولكن من تتاح له السرقة تحت مظلة الفوضى لماذا يشغل نفسه بالتكسير والتحريق وتمزيق اللوحات؟ هذه أفعال شخص ينتقم، ربما هي ثارات رجال أعمال؟ أفعال صغيرة وليس هذا وقتها المناسب، كانت كل حجة تنبت في أذهاننا سرعان ما تخمد لعدم امتلاكها المنطق الكافي.

قادتنا أقدامنا خلال الدردشة إلى محطة البنزين المقابلة للكازينو، كانت فارغة إلا من بعض عمال بزي عمل أحمر مثير للقلق، لون اللهب في محطة مواد قابلة للاشتعال! كان مدخل المحطة مغلقًا بطريقة فريدة، رفعوا الشبكات الحديدية التي تغطي قناة الصرف المحيطة بالمكان وغرسوها رأسيًا في فتحة القناة، فبات من المستحيل على أي سيارة اجتياز هذا المانع الأمني القاسي.

ألقينا التحية عليهم فبادلونا التحية مشوبة بارتياب، سألناهم إن كانوا شهدوا أعمال تخريب الكازينو، تفرق اثنان منهم في إعلان واضح لعدم الرغبة في مشاركتنا الحديث، بعضهم كان أكثر انفتاحًا وأخبرنا أنهم لم يكونوا موجودين عندما تم ذلك، أعطانا آخر قصة تصلح لترميم فضولنا حين قال إن أهالي المنطقة المحيطة بالكازينو هم أنفسهم من قاموا بتخريبه، وأضاف: سنين طويلة، ولم تفلح شكواهم في إيقاف نشاط الكازينو المريب، وعانوا صامتين ومقهورين من أشكال السكارى وبنات الليل التي تفسد عليهم حياتهم، وكانت مصدر قلق مستمر على أبنائهم وبناتهم.

سبب وجيه، يمكن فهم دوافع هؤلاء لتدمير الكازينو وتخريبه، بينما فشلت في إيجاد رابط بين الكازينو والثورة. وفق المنطق نفسه يمكن تفسير الكثير من الأحداث التي لا يمكن إيجاد رابط بينها وبين الفعل الثوري، الكثيرون انتهزوا -بلا شك- حالة الفوضى لتنفيذ ما لم يتسن لهم فعله في الأوقات العادية، فهل نأخذ الثورة بذنب هؤلاء جميعًا؟

استكملنا سيرنا، رغم تكرار مشهد التكاتك وسيارات «التُمناية» الصغيرة التي تسير عكس اتجاه المرور في الشارع، إلا أن سامح ظل مندهشًا، تقريبًا لم يتوقف عن التعليق على كل تكتك يسير، قال إن مرور شارع الهرم هو أشد مرور في مصر، كانت سطوة ضباط وأمناء المرور هنا شديدة القسوة لدرجة أنك لن تستغرب مثلًا لو رأيت بعض العساكر يحملون توك توك بسائقه ويلقون به خارج الطريق، لقد قامت ثورة بالفعل، رددها بعمق لم أملك أمامه سوى الضحك.

الوقت يفر من بين أيدينا، قررنا أن نستقل إحدى سيارات الأجرة المتراكضة كالفئران حولنا، لا أعرف الطرق، تركت الأمر لسامح ليختار الميكروباص أو «التُمناية» المناسبة، رفضَ أن نركب تو توك، عنده أزمة حضارية معه، خلال دقائق كنا بداخل سيارة ميكروباص تتراقص بين حارات الطريق، لم يُخف السائق متعته بالرقص بين حارات شارع الهرم.

- «أنت عارف يعني إيه تترقص بعربيتك في شارع الهرم!»

قالها وهو ينتظر من الركاب مشاركته بهجته العشوائية التي لم تكتمل، تحول الشارع فجأة ومن دون سابق إنذار إلى كتيبة عسكرية، وجود مكثف لمركبات عسكرية على جانبي الطريق، دبابات وسيارات مصفحة، ومدرعات وشاحنات ضخمة، رجال جيش بأزياء تقليدية منتشرون على جانبي الطريق، ورجال مهام خاصة بأزياء تشبه الكائنات الفضائية، عاد السائق إلى حجمه الطبيعي والتزم بالحارة اليمنى، وسرعان ما توقف وقال، غير آبه لاعتراضات الركاب وشكاوى النساء منهم، إنه لن يستطيع أن يمضي أكثر من ذلك، لأن موعد حظر التجول اقترب وسوف يغلقون النفق، وعلى كل راكب أن يُدبّر أموره بمعرفته.

كان أمامنا أكثر من ساعة على موعد الحظر، قررنا استكمال الطريق إلى ميدان التحرير سيرًا على الأقدام، قد يستغرق الأمر ساعة – هكذا قال سامح، عمومًا هي فرصة جيدة لمشاهدة الأمور عن قرب.

إذا كان هناك وصف عام يمكن إطلاقه على الناس الذين التقيناهم على طوال الطريق فهو «الدهشة»، كأن الناس شركاء في حلم، كل واحد منهم يتحسس المساحة المحيطة به ليتأكد إن كان ما يراه ومن يراهم حقيقيين وليسوا أوهامًا، ما حدث خلال اليومين يبدو بالفعل كالحلم أو الوهم، حلم سمعوا به ورأوا مقتفات منه في نشرات الأخبار، وهم يستعدون للقائه الآن، أو على الأقل سامح وأنا نسعى بأرجلنا للقائه، شعرت الآن فقط بحال الناس قديمًا عندما كانت تأتيهم الأخبار عن المغول الذين لا يتركون مدينة إلا بعد قتل رجالها واغتصاب نسائها. هل يختلف الأمر كثيرًا؟ نحن أيضًا نسمع الآن عن ثورة قامت وصراعات دارت ومجازر ارتكبت ومبان أحرقت، سمعنا ذلك من نشرات الأخبار وعبر الهاتف والفيس بوك وأحاديث الناس في الشوارع، سمعنا عن قتلى وجرحى ومحتجزين وكر وفر وغازات مسيلة للدموع، سمعنا أصوات سيارات الجيش والإسعاف والشرطة تتصاعد في المساء. اليوم فقط نعاين بأنفسنا ونلمس بايدينا ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا

ربما يمكنك التأقلم سريعًا مع مشهد سيارة جيش مموهة في الشارع، يمكنك كذلك اعتياد مشهد السيارات المصفحة والمدرعة رغم غرابتها اللافتة، بل من الجائز استيعاب مرور شاحنة كاكية اللون بواقيات حديدية على زجاجها، فكلها مركبات تدور على عجلات مطاطية وإن اختلفت الأحجام والأشكال، ولكنني لم أستطع أبدًا استيعاب مشهد الدبابة بعمودها المشرع في الهواء وجنزيرها الراقد على أسفلت الشارع المكتظ بالسيارات والبشر والموتوسيكلات والدراجات.

مع اقترابنا من نفق الجيزة تغيرت الأوضاع، الطريق متوقف، طابور طويل من السيارات المتراصة وهدير غير متجانس من أصوات الأبواق والصياح وتهليل مجموعات من أطفال الشوارع تحول الشارع معهم إلى ملعب يتراكضون فيه بين السيارات ويتشاتمون ويتصايحون.

أسرعنا الخطى في فضول لنعرف سر هذا التوقف المفاجئ في مسار الشارع، عند مدخل النفق كانت ثلاث دبابات قد اصطفت بالتوازي مغلقة الطريق أمام السيارات، حول النفق من كل الاتجاهات تجمعات بشر جاءوا للفرجة، تكدس بشري من جهة مسجد «نصر الدين» أعلى النفق، يطلون على ما يدور أسفله>

تعالت أبواق السيارات وصيحات أصحابها معربين عن غضبهم من إغلاق النفق قبل موعد الحظر بنصف ساعة كاملة، غضبٌ قابله صمت شديد من جهة رجال الجيش، سرت بين الناس همهمات تحمل شائعة تقول إن أصحاب السيارات عليهم قضاء الليل كاملًا داخل سياراتهم حتى يحين موعد فك الحظر في السابعة صباحًا، أكثر من 12 ساعة حبس داخل سيارة متوقفة على الطريق!

انفعل شاب من سائقي السيارات الملاكي، خرج من سيارته وراح يُخاطب العساكر المتوقفين إلى جوار الدبابات، بدأ بشرح موقفه، قال إن معه بالسيارة والدته وهي «ست كبيرة»، وأنهما في طريقهما إلى بلدتهما في المنصورة، وإذا سُمح لهما الآن بالعبور فإنهما خلال دقائق سيكونان على الطريق الزراعي.

كان الجنود مثل التماثيل، لا حركة واحدة تدل على أنهم يستمعون إلى الشاب أو حتى يدركون وجوده، راح الشاب يقترب أكثر ويكرر طلبه ولا مجيب، انفعل وراح يخبط بكفيه على الدبابة بغضب، مكررًا عبارات كثيرة محورها المشترك قلقه على أمه في السيارة.

كما ثار الشاب فجأة، هدأ فجأة، راقبناه يعود منكسرًا نحو سيارته، وفي اللحظة التي ظننا فيها أن هذه الدبابات لا يمكنها التحرك، فوجئنا بقائد إحداها يخرج من داخل دبابته مؤديًا ما يشبه التحية، مددت البصر صوب الجهة التي قصدها وجدت ضابط صف من الواقفين حول المكان يبادله التحية بإشارة، لا أعرف إن كان الأول يستأذنه أو أن ضابط الصف هو من بادر بالإشارة وقائد الدبابة يستجيب، سرعان ما عاد قائد الدبابة إلى داخلها وشاهدناها وهي تناور باحتراف مرعب وحساسية مرهفة في المساحة شديدة الضيق نسبة إلى حجمها، وبمعاونة ضابط الصف فتحت الدبابةُ فُرجة تكفي لمرور سيارة الشاب.

مرت السيارة وفي إثرها مر عدد كبير من السيارات التي كانت محجوزة، قبل أن يعيد قائد الدبابة المناورة ويغلق الفُرجة.

كنت أراقب الأمر بدهشة، كأنني بالفعل أشاهد فيلم سينما ولكن بتقنيات حديثة تجعله يبدو واقعيًا. الغريب أن الشاب قائد السيارة كان حريصًا على منح المشهد لمسة كفيلة بتخليده، حين عاد سيرًا على قدميه من داخل النفق متجاوزًا الدبابات، ليقترب من ضابط الصف ويصافحه بحرارة.

الطريف أنني أكاد أجزم- أو هكذا صور لي خيالي- أن الضابط لم يعرف من هذا الشاب، في زحام الناس الذين كانوا في هذه اللحظات اقتربوا كثيرًا من الدبابات ومدخل النفق مأخوذين بشهامة الضابط وراحو يصفقون ويتصايحون تعبيرًا عن امتنانهم وتأثرهم الشديد باستجابة الدبابة للمواطن.

روابط الحلقات السابقة:

- الحلقة الأولى.

-الحلقة الثانية.

- الحلقة الثالثة.

- الحلقة الرابعة.

- الحلقة الخامسة.