«بصحبة الجرذان والسحالى» تناولت وجبة سحورى، قبيل الفجر، فى يوم «ما طلعتلوش شمس»، فى أحد أيام شهر رمضان، عام 1987، فى غرفة «التبن»، الملحقة بمنزل «عم إسماعيل»، فى منطقة يطلقون عليها «عزبة الزرايب»، بقرية فلسطين، فى العامرية، بالإسكندرية.
كنت فى ذلك الوقت طالبا فى الثانوية العامة، أمضى فترة إحازة الصيف، فى العمل، مرة «قهوجى»، فى مقهى بالإسماعيلية، وأخرى «شيال»، فى ميناء بورسعيد، وثالثة «فواعلى» مع عم «محسن» مقاول البناء، ورابعة «تباع» على سيارة أجرة، وهكذا.
وما إن انتهيت من امتحانات «الثانوية العامية»، وكانت صعبة فى ذلك الوقت، حتى شددت الرحال إلى الإسكندرية بحثاً عن عمل، وهناك أرشدنى «أولاد الحلال اللى قعدت أدعى عليهم كلما رفستنى بقرة»، على العامرية، وتحديداً فى منطقة «الزرايب».
أغوونى «أولاد الذين»، الذين كنت أجلس بالقرب منهم على مقهى، أمام محطة مصر فى الإسكندرية، بالذهاب إلى هناك، وأخذوا يعددون لى محاسن ومفاتن منطقة الزرايب، حتى تخيلت أننى «مهاجر كندا، ولا رايح عقد عمل فى الخليج».
بعت ساعة يدى، التى ورثتها عن أبى أباً عن جد، لأحدهم، وكانت من ماركة شهيرة «بنت ناس»، بـ3 جنيهات، لأشد الرحال إلى «منطقة الزرايب»، التى لم يخبرنى أحدهم، بطبيعة العمل هناك، أو سر تسميتها بهذا الاسم، واكتفوا بأن «الشغل هناك على قفا من يشيل».
ولأننى قليل البخت، هبطت من السيارة، فى منطقة خطأ تدعى «الجزائر»، حيث سميت معظم قرى وعزب العامرية، بأسماء المدن والدول العربية، فى عهد الرئيس الراحل، جمال عبدالناصر.
جلست مستنداً إلى سور كوبرى، أضرب أخماساً فى أسداس، لا أدرى ماذا أفعل، حتى أرسل لى الله «نجدة». عربة كارو تتهادى من خلف حمارها وجه رجل خمسينى أغبر الوجه، ملطخ القدمين بالطين، وما إن استوقفته سائلاً «يا عم لو سمحت هيه منطقة الزرايب فين»، حتى قال لى «هتمشى يوم بزيه لحد ما توصل»، وحين سألته عن العمل، طلب منى بمنتهى الكرم، أن أركب بجواره، وكانت أول مرة أركب فيها «الكارو أم حمار».
سار بنا الحمار المسكين طويلاً، وكان كلما تلكأ فى السير، باغته «عم إسماعيل» بخرطوم، كان يمسكه فى يده، ويتعامل معه باعتباره «كرباج»، حتى وصلنا منزلا من 3 طوابق، يحيطه سور طويل، كأنه منزل أسطورة المافيا «آل كابونى»، وهناك هبطنا من «الركوبة»، بعد أن كنت حكيت حكايتى كاملة للرجل.
واستقبلتنا«جماعة عم إسماعيل»، التى عرفها بى قائلاً «الفواعلى الجديد اللى هيراعى البهايم من هنا ورايح»، وحينها أدركت سر تسمية المنطقة بهذا الاسم، ثم طلب منى تسليمها بطاقتى الشخصية ومتعلقاتى على سبيل الأمانة، على أن أستردها بعد نهاية خدمتى الصيفية.
وحين اقترب موعد أذان المغرب، كانت «جماعة إسماعيل تجهز لى حجرتى، ثم تضع بها صينية، ليس بها سوى منتجات البهايم.. إشى لبن.. وإشى رز بلبن، وإشى زبادى»، ثم داهمتنى بطبق «مهلبية».
وقبل أن أسأل عن اختراع اسمه «رز وطبيخ ولحمة»، قالت لى «ما تخافشى اللحمة والرز جايين فى الطريق»، وما هى إلا لحظات حتى طرق الباب 3 فتيات، لا أتذكر أسماءهن، وضعت كل منهن طبقاً أمامى.. «فتة ورز، وطبيخ، وصدر فرخة»، وانصرفن فى براءة، لا تقل عن براءة فأر صغير، كان يمر بجوارى من حين لآخر، وأنا أجلس على «مشمع»، يعلو أكياس «التبن».
وبعد الإفطار، أتى كل من أفراد العائلة، بطبق فى يده، جعلنى أكره اللبن.. «بليلة ومهلبية ورز بلبن وزبادى»، وفهمت أن العائلة، تمكنت من تحقيق الاكتفاء الذاتى من الطعام، حيث «الطباق كتيرة والزريبة مليانة بهايم».
تجاذبنا أطراف الحديث، وعلمت من البنات أن ثلاثتهن «ميح» فى اللغة الإنجليزية، فتبرعت بأن أعرض عليهن خدماتى، حيث كنت متفوقاً فى الإنجليزية، وكان حلم عمرى أن ألتحق بكلية اللغات والترجمة، وكانت الصفقة من «عم إسماعيل» وتتلخص فى جنيه إضافى على يوميتى، مقابل تعليم بناته.
وظللت على هذا الحال أسبوعين، فى الصباح أتولى إفطار الهوانم «البقر والجاموس»، ثم أسقيهن، وفى العصر أضع أمام كل منهن وجبة «العلف»، ثم أعاود سقايتهن، قبل أن أحمل الروث فى «برويطة»، وأضعها أمام حجرتى، إلى أن تجف وتصبح «سماد عضوى» للزراعة، وفى المساء ألقن الهوانم الصغار، دروساً فى الإنجليزية.
وفى أحد الأيام طلب منى «عم إسماعيل»، الذهاب إلى «القبانى»، الذى يتولى وزن «التبن»، و«عم سيد» التاجر الذى سيشتريه، واتفقت معهما أن يأتيا فى ظهر اليوم التالى، وما إن عدت حتى وجدت البوابة مغلقة، وفشلت كل محاولاتى للنداء على «عم إسماعيل»، وعائلته الطيبة، ولم أجد بداً من تسلق السور، حيث كان أذان المغرب يقترب.
طرقت الباب حتى تورمت يداى، وهدانى تفكيرى إلى دخول الزريبة، حيث كان مفتاحها فى جيبى، و«سليت صيامى» بمداعبة البقر والجاموس، إلى أن يأتى الرجل.
مر الوقت دون أن يأتى أحد، وأذن المؤذن وأنا «وحدى مع المواشى»، وكنت فى قمة الجوع، فلم أجد سبيلاً سوى أن أحلب «جاموسة»، لأسد جوعى، بعد أن وضعت أمامها ورفيقاتها، وجبة «التبن» المفضلة.
شربت قدر «قسط لبن كامل» من الجاموسة، التى كنت أشفق عليها من جوعى، وكانت من وقت لآخر «ترفسنى برفق»، لأتوقف عن ترك ضرعها، وتدبر أمرى مع ضرع جاموسة أخرى.
استلقيت بجوارها قليلاً لحين حضور «عم إسماعيل»، ونمت فى سلام، لم يخرجنى منه سوى «رفسة» أخرى، لكنها هذه المرة، من «عم إسماعيل»، إيذاناً بحضوره.
وما إن سألته كنت فين يا «عم إسماعيل»، حتى أجابنى بأنه اضطر للسفر إلى القرية المجاورة، بصحبة بناته، وزوجته التى داهمها المرض فجأة، وما إن قلت له «طيب كنت قول لى عشان أعمل حسابى ع الفطار»، حتى باغتنى قائلاً «سبحان الله ما الجاموس جنبك وخير ربنا كتير»، وحينها تمنيت لو ربطته مكان «الجاموسة المسكينة»، وألقيت أمامه بـ«وجبة تبن».