عادة لا أقرأ مقدمات الكتب إلا مُتأخرا بعد أن أوغل فى متن الكتاب أو أنتهى من قراءته، وأحيانا لا أقرأ المقدمة إطلاقا، ولعل ذلك مرجعه خبرة قراءة وكتابة القصص التى تكون أفضل بنبذ المقدمات والدخول مباشرة إلى الموضوع القصصى. وبرغم أن الأمر فى كتب المعرفة يختلف عن الكتب الأدبية، إلا أن هذا ماحدث ولا يزال يحدث معى، وقد فعلته مع كتاب «عقل الحيوان وعقل الإنسان- مقارنة فى ضوء أحدث الدراسات السلوكية والسيكولوجية» الذى أهدانيه منذ فترة كاتبه الدكتور مدحت مريد صادق. ووجدتنى أعود إليه مُؤخَرا فأوقن أنه كتاب فريد فى أصالة تأليفه، وقررت أن أقوم بواجبى تجاه هذه الأصالة بعرض الكتاب تحت عنوان أوَّلى هو «دعوة إلى التواضع»، لقناعتى أن الفائدة (المعنوية) الأعظم من تأمل البشر لسلوك الحيوان، هى حث الإنسان على التواضع، فى نفسه، وأمام الغير، والكون، والكائنات، ورب هؤلاء جميعا بالطبع.
وقد تفاجأت تماما عندما قرأت مقدمة الكتاب أخيرا ووجدت فى مطلعها هذه السطور:«صارت البشرية فى حاجة إلى التواضع لعلها تتوقف عن الاندفاع إلى حافة الكارثة، ولعل (الإيثولوجى) أو علم سلوك الحيوان يكون سبيلا لبعض ذلك، فلسنا وحدنا على هذه الأرض»، وقد نوه المؤلف إلى أن هذه العبارة كنتُ كاتبها فى مقدمة تحريرية لمقالة علمية نُشِرت بمجلة العربى، العدد 524، يوليو 2002!
أذهلنى أننى نسيت تماما سبقى كتابة ذلك، فثبَّت العنوان الذى كان أوليا، وحمدت الله على نعمة النسيان التى تُبدى القديم جديدا مُدهشا ومُنعشا، كما حمدته على إضاءة بصيرتى مبكرا إلى حقيقة تواشج نسيج الحياة على الأرض، والشغف بذلك العلم الذى يدرس هذا التواشج بين خيوط شبكة الحياة «الإيكولوجى»، المُندرِح فى سياقه «الإيثولوجى» أو علم دراسة سلوك الحيوان، الذى يكشف بأحدث أدوات البحث العلمى ودقة ملاحظاته ما تنطوى عليه «الحيوانات» من حس ومشاعر ودرجات مفاجئة من الذكاء العقلى والعاطفى تكاد تصرخ بـ«إنسانية» هذه الكائنات التى يُعرِّى سلوكها الفطرى «حيوانية» ما انحدر إليه النوع البشرى، بتغوله على الأحياء والحياة، وحتى على نفسه، بالغرور الذى هو أصل كل عِلَّة، وما يستتبعه من الغطرسة، النرجسية، السادية، التعصب، العدوانية، الخيلاء، جنون العظمة، زعم احتكار الحقيقة، هوس الضخامة. وكلها فروع عوجاء من أصلٍ مُعتلٍ واحد، يمكن أن يواجهها تأمل سلوك الحيوان فى الطبيعة، وعبر كشوفات علم الإيثولوجى، بما يصرخ فينا: تواضعوا، فلستم وحدكم الأذكياء وذوى الحس والعاطفة والتدبُّر على هذه الأرض، فتلك «الحيوانات» قد تفوقكم فيما تظنون أنكم فيه أعلى مرتبة وأرفع شأنا. تواضعوا تصحوا، وتصح مجتمعاتكم، ويصح الأحياء والجمادات جميعافى هذا الكوكب الجميل الهش. وهذا مايقول به هذا الكتاب، دون أن يفصح، وهو كتاب لعالِم يمتلك حسنيين وزيادة: حسن العلم، وحسن الكتابة، إضافة إلى حُسن التواضع.
يقرأون أفكارنا بلغة الجسد
يبدأ الكتاب بالإشارة إلى ما اكتشفه العلماء فى عام 2007 من أن قردة الشمبانزى تتفوق على البشر فى بعض اختبارات الذاكرة، فضلا عن أن طالبات جامعيات من اليابان لم يستطعن مجاراة الشمبانزى فى الدقة والبراعة والسلاسة التى أبداها فى التعامل مع شاشة عرض إلكترونية تعمل باللمس. ويتخذ الكتاب من الإشارة إلى ذلك الاكتشاف، والذى يمثل تحديا لكبرياء الإنسان، دليلا على أهمية مراجعة بعض مفاهيمنا حول الجذور البيولوجية للقدرات العقلية البشرية، حيث تشير البحوث إلى أن أغلب القدرات الإدراكية التى نظنها حكرا على البشر هى أيضا موجودة فى الحيوان، وإن اختلفت فى الدرجة، فالثابت علميا أن من الحيوانات ما يعرف بعضه البعض على نحو فردى، ومنها ما يقرأ أفكار البشر ويعرف نواياهم عبر معلومات يستقيها من لغة الجسد، ومنها أيضا ما يدرك مفهوم الأعداد، وبالتالى يستطيع إجراء بعض العمليات الحسابية، ومنها ما يبتكر ويصنع الأدوات، أو يتخذ القرارات القائمة على التدبر والاستبصار، ومنها ما يبتدع حلولا لمشكلاته ومشكلات الغير، ومنها أيضا ما يعرف صورته فى المرآة ويملك إدراكا لذاته ووجوده وعلاقته بالآخرين.
يتحفظ الكتاب أيضا على ما درجنا عليه من إسباغ صفة «الإنسانية» على المشاعر والأحاسيس النبيلة، ظنا منا أننا ننفرد بها دون بقية المخلوقات، ويدعو إلى مراجعة ما اعتدنا عليه من استخدام لفظ «الحيوانية» كمرادف للانصياع للغريزة وإشباعها على حساب الآخرين، فحصيلة ما يربو على ثلاثة أرباع القرن من البحوث تبين بجلاء أن الحدود بين ما نعتبره شعورا «إنسانيا» وما نظنه سلوكا «حيوانيا»، ليست حدودا قاطعة، بل هى مساحات رمادية غائمة يتشابك فيها سلوك الحيوان مع سلوك الإنسان، وأن الصورة النمطية فى أذهاننا عن صراعٍ دائمٍ بين مفترس وطريدة ليست إلا وجها واحدا من أوجه الحياة البرية، فحياة الحيوان تزخر بالتعاطف والإيثار والاستعداد لإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف. كما أن من الحيوانات ما يقلد غيره، وهناك بعض الحيوانات التى تغار وتتفاءل وتتشاءم، وتضحك وتمرح، وربما تحلم أثناء نومها. أما عن تثمين الصداقة فمن الحيوانات ما يضحى طائعا، وليس بحكم الغريزة، من أجل حيوان آخر، ومنها ما يتلهف لرفقة الأصدقاء المرحين ويتجنب أصدقاء السوء والكآبة، ومن الحيوانات كذلك ما يتبين وجوه البشر، ويستطيع أن يتذكر شخصا حتى إذا كان قد رآه مرة واحدة قبل عدة سنوات.
ليسوا ماكينات تحركها الغرائز
أما المدهش حقا، فهو أن بعض الحيوانات تستطيع أن تفطن إلى الخلل فى سلوك الإنسان عندما يُفرِّق فى التعامل بين حيوان وآخر، وفى مثل تلك الحالات يعبر الحيوان بوسائل بليغة عن رفضه للتمييز، حتى إذا كان التمييز فى صالحه، وهو ما يعنى أن كل عواطف الإنسان تقريبا لها جذورها التى يمكن تتبعها ودراسة أصولها العصبية فى الحيوان. وربما تبدو هذه الأمور فى نظر البعض ضربا من الخيال العلمى، لكن الحقيقة أن الكتاب لا يورد معلومة واحدة غير مدعومة بالأدلة العلمية الموثقة. ويشير الكتاب إلى أن الحيوانات ليست كلها ماكينات تُسيِّرها الغرائز كما نتصور، وأن بعضها يتحلى بضبط النفس، بحسب المفهوم البشرى للكلمة. فمثلا كل من الشمبانزى وإنسان الغاب والقرد المعروف باسم «القرد المقلنس» وذلك المعروف باسم «القرد السنجاب» يمكن أن يضحى بلذة فورية تافهة من أجل هدف كبير. والمدهش أن الفترة الزمنية التى يستطيع الحيوان أن يقضيها صامدا أمام الإغراءات أطول قليلا من الوقت الذى يستطيع أطفال البشر (بين ست وثمانى سنوات) أن يصمدوه أمام إغراءات مناظرة. إضافة إلى ذلك تستطيع بعض القردة أن تقلل تناولها لطعام يجلب العطش، إذا عرفت أن الماء لن يتاح لها قبل مرور ثلاث ساعات، أما عندما تعرف أنها ستحصل على الماء بعد نصف ساعة فإنها لا تمتنع عن تناول ما يقدم إليها من ذلك الطعام.
فى قفصين صنعت جدرانهما من البلاستيك السميك الشفاف وقف اثنان من القردة استعدادا للتجربة. كان الجدار الأمامى لكل قفص به فتحات مستديرة للتهوية، وأيضا لتمكين القرد من إخراج يده إذا أراد. وأمام القفصين وضع العلماء منضدة بعيدة عن متناول القردين، ثم جاءت باحثة ووضعت على المنضدة طبقا به شرائح من الخيار. كان كل قرد يرى بوضوح رفيقه فى القفص الآخر، كما كان يرى المنضدة والخيار والباحثة، وعندئذ بدأت التجربة، وفيها كانت الباحثة تطلب من القرد الأول تأدية مهمة معينة، فيؤديها، فتناوله شريحة من الخيار فيأكلها سعيدا، وبعد ذلك تطلب من القرد الثانى أن يؤدى مهمة مماثلة فيؤديها، فتناوله شريحة الخيار فيقبلها فرحا. إلى هنا كان الأمر عاديا، فالقردان يؤديان مهمتين متماثلتين ويحصلان على مكافأتين متماثلتين فى كل مرة. غير أن المتاعب بدأت عندما أتت الباحثة بطبق مليء بالعنب ووضعته على المنضدة بجوار طبق الخيار، ثم طلبت من القرد الأول تأدية ذات المهمة التى كان يؤديها، وعندما فعل أعطته حبة من العنب. انتظر القرد الثانى دوره، لكنه عندما انتهى من مهمته قدمت له الباحثة شريحة من الخيار، وليس حبة عنب مثلما قدمت لرفيقه. ازدرد القرد قطعة الخيار على مضض، معللا نفسه بأن الباحثة ربما تكون قد نسيت، وأنها فى المرة القادمة لابد ستعطيه عنبا، ولكن المرة التالية لم تختلف، بل أصرت الباحثة على أن تعطى رفيقه حبة عنب وتعطيه هو شريحة خيار. لم يستطع القرد تحمل تلك المحاباة الفجة من جانب الباحثة لرفيقه، فأخذ يتذمر صائحا وصارخا بأعلى صوته، وعندما كررت الباحثة محاباتها لرفيقه بدأ القرد فى التصعيد، ضاربا جدران القفص بقبضتيه فى شدة وغضب حتى كاد يحطمه، ثم أخذ يخرج يده من القفص ويرمى الباحثة بشريحة الخيار كلما أعطتها له، وكأنه يقذف بها فى وجهها احتجاجا، وفى النهاية توقف تماما عن التعاون مع الباحثة، رافضا تأدية أية مهمة تطلبها منه. الطريف أنه فى تجربة أخرى عندما كانت الباحثة توزع الطعام على القردين دون أن تطلب منهما القيام بأية مهمة، لم يحتج أى منهما على طعام رديء حتى إذا شاهد رفيقه ينال طعاما أفضل، وكأن القردين كانا يدركان أن ما يتلقيانه من طعام هو منحة مجانية، ومن ثم لا يليق الاعتراض على سلوك المانح حتى لو بدا فيه بعض التمييز! الأجمل من ذلك هو تجارب أخرى بينت أن القرد الذى يحظى بتعامل مميز يثور أيضا، رفضا للاستئثار بالحظوة دون رفيقه.
فى الغنائم والمغارم
قدمت هذه التجارب دليلا على أن القرد يعرف ما له وما عليه، ويحرص على عدالة تقسيم المغارم والمغانم بينه وبين أقرانه، وهو ما دفع العلماء إلى مواصلة البحث فى هذا الاتجاه، ليكتشفوا أن القردة تتبع نفس تكتيكات البشر عند القيام بممارسة لعبة تسمى «لعبة الإنذار الأخير»، وهى لعبة شهيرة يعرفها الاقتصاديون والمقامرون، وقد تطورت لتصبح أداة علمية لدراسة ميول البشر عند تقاسم الأموال والممتلكات مع غيرهم. تتضمن اللعبة اشتراك شخصين فى تحديد الكيفية التى يتقاسمان بها مبلغا من المال يُدفع إليهما. يُعرَف أحد اللاعبين باسم «المقترِح» (بكسر الراء)، ويعرف الثانى باسم «المستجيب». لنفترض أنك سوف تلعب تلك اللعبة مع صديقك، وأنك ستقوم بدور «المقترح»، بينما سيقوم هو بدور «المستجيب»، تقول اللعبة أن شخصا سوف يخبرك بأنه قرر أن يمنحك أنت وصديقك مبلغا من المال، وليكن ألف جنيه مثلا، ولكن هناك شرطين لابد أن يتحققا لكى تحصلا على النقود، الأول هو أن تحدد أنت كم سيكون نصيبك وكم سيكون نصيب صديقك من هذا المبلغ، والشرط الثانى أن يوافق صديقك على القسمة التى تقترحها. وتقتضى اللعبة أنه فى حالة موافقة صديقك على اقتراحك سوف تأخذان المبلغ بالفعل وتتقاسمانه حسب ما اقترحت أنت بالضبط، أما إذا رفض صديقك اقتراحك، فلن يحصل أى منكما على شيء. وتقول الدراسات التى أجريت على الإنسان أن البشر يمارسون هذه اللعبة بقدر معقول من القناعة، حيث يغلب أن يقرر المقترح لنفسه نصيبا لا يزيد على ستين بالمئة من المنحة تاركا الباقى للمستجيب، والذى يقبل عادة هذه القسمة، ولا يرفض سوى الاقتراحات التى تهبط بنصيبه إلى أقل كثيرا من ذلك، ولكن ماذا عن الحيوان؟
البديع حقا أن للعلماء طرقهم العبقرية لاختبار مثل هذه الأمور الغريبة فى الحيوان، ويورد الكتاب هذه الطرق بالتفصيل، غير أن المهم هنا هو أنه عندما أتاح العلماء للشمبانزى أن يمارس هذه اللعبة تبين أن القرد المقترح والقرد المستجيب بعد أن يستوعبا قواعد اللعبة يتصرفان مثل البشر تماما، فالقرد المقترح لا يغالى فى رفع نسبته من المنحة، والقرد المستجيب يقبل الاقتراحات العادلة، ويرفض ما يراه قسمة مجحفة. وعندما يقوم الباحثون بتغيير مجريات اللعبة، لتتحول إلى لعبة أخرى يسمونها «لعبة المقترح الدكتاتور»، والتى لا يُعتدُّ فيها برأى المستجيب، وإنما تتم دائما تلبية رغبة المقترح، فإن اختيارات الشمبانزى تتغير ويبدأ المقترح فى اقتراح نصيب أكبر لنفسه، لإدراكه أن رأى المستجيب لم تعد له قيمة. والطريف أن الدراسات التى أجريت على الأطفال تبين منها أن الطفل المقترح يميل إلى التصرف بعدالة فى لعبة الإنذار الأخير، وأنه يتحول إلى السلوك الأنانى حالما تتغير اللعبة إلى المقترح الدكتاتور، ومثلما يحتج الشمبانزى المستجيب على الظلم بالهياج والضرب على قفص المقترح، يحتج الطفل المستجيب لفظيا بالصراخ فى وجه الطفل المقترح وتوجيه الوعيد له.
مرحا يُقهقِهون
اكتُشف الضحك فى الحيوان على يد عالم أمريكى فى أواخر القرن الماضى، والذى لاحظ أن الفئران تُصدِر دفعات متتابعة من أصوات ذات ترددات خاصة يصعب على البشر سماعها، لكن الأجهزة ترصدها بوضوح، وأن هذه الأصوات الشبيهة بالقهقهة تصدر عن الفأر عندما يكون سعيدا، ولا تصدر أبدا عندما يكون فى مأزق أو موقف صعب، وعلى ذلك اعتبر العالِم أن هذه الأصوات مرادفة لضحكات البشر. ومما عزز هذا الاستنتاج أن تلك «القهقهات» تزداد وتيرتها بشكل ملحوظ عند دغدغة الفأر. ولقد قام مكتشف ضحكات الفأر بزيارة جامعات ومراكز بحوث عديدة، ودرب الباحثين فيها على دغدغة الفئران وانتزاع الضحكات منها، وفى غمار ذلك اكتشف أن استعداد الفأر للضحك يقل عندما تكون هناك قطط على مقربة من المختبر الذى تجرى فيه التجربة، أو عندما يتكرر إنزال العقاب بالفأر لغير سبب، وأيضا فى حال احتواء المختبر على كيماويات ذات روائح منفرة، وباختصار لا يضحك الفأر إلا فى جو من الأمان والراحة. ولم تكن هذه العوامل هى الأوجه الوحيدة للتشابه بين ضحك الفئران وضحك البشر، فهناك أمور أخرى، منها مثلا أن الدغدغة تجلب الضحك فى الفئران الشابة أكثر منها مع الفئران المسنة، ومنها أن أكثر المناطق حساسية للدغدغة فى جسم الفأر هى منطقة العنق، ومنها أيضا أن الضحك يصدر تلقائيا بكثافة عندما ينخرط الفأر فى اللعب مع رفاقه، ومنها كذلك أن الفأر الذى يلعب كثيرا يضحك بالدغدغة أكثر من الفأر غير المحب للعب. وإذا تأملت هذه الخصائص فربما لا تجد بالفعل أى فرق بينها وبين ما هو معروف عن الضحك فى البشر. ولكن الأطرف أنه عندما يتاح للفأر أن يختار فإنه يفضل قضاء وقته مع رفيق أكثر ميلا إلى الضحك. وفى بعض التجارب بدا أن الفئران تُفضل صُحبة رفيق مرح أكثر من تناول طعام شهى.
ووفاء يُضحون
من الأدلة التى يوردها الكتاب على استعداد الحيوان للتضحية فى سبيل رفاقه تلك التجارب التى قام فيها الباحثون بتدريب القردة على الاختيار بين سلسلة معدنية طويلة وأخرى قصيرة، بحيث إذا جذب القرد السلسلة الطويلة كوفئ بطعام وفير، وإذا جذب القصيرة أعطاه الباحثون نصف كمية الطعام. وبالطبع تعلمت القردة بسرعة أن تجذب السلسلة الطويلة. بعد هذا التدريب، كان العلماء يضعون قردين فى قفصين متجاورين، ثم يضعون السلسلتين أمام أحدهما ويتيحون له أن يختار. وعندما كان القرد يجذب السلسلة الطويلة كانوا يعطونه الطعام الوفير، لكنهم فى ذات الوقت كانوا يُحدِثون صدمةً كهربائية فى أقدام القرد الآخر فى القفص المجاور، فيرتعد هذا القرد الأخير ويقفز هلعا وألما، أما إذا جذب القرد السلسلة القصيرة فكانوا يعطونه نصف الطعام ولكن دون أن يحدثوا صدمة كهربائية فى أقدام القرد المجاور. وتبين أن القرد حالما يفطن إلى العلاقة بين نوع السلسلة التى يجذبها وبين الأذى الذى يلحق برفيقه فى القفص المجاور فإنه يتحول فورا إلى جذب السلسلة القصيرة، مضحيا بنصف طعامه فى سبيل كف الأذى عن رفيقه. لقد وُجِد فى هذه التجارب أن القردة لا يتوقف معظمها فقط عن جذب السلسلة الطويلة والتحول إلى جذب السلسلة القصيرة التى لا تتسبب فى إيذاء القرد المجاور، بل وُجِد أيضا أن بعض القردة تمتنع تماما عن جذب أية سلسلة من الاثنتين، ربما خشية أن تكون السلسلة القصيرة أيضا تحدث صدمة للقرد المجاور، وقد امتنع أحد القردة عن جذب أى من السلسلتين لمدة خمسة أيام، وهو ما يعنى أن بعض القردة تفضل أن تجوع، بالمعنى الحرفى للكلمة، على أن تسبب الأذى لجارها. إنها «الحيوانية» بمعناها الذى لا نعرفه. والتى تكاد تكون «الإنسانية» التى صار يفتقدها مزيد من البشر. فهل نتواضع؟!
مؤلف الكتاب فى سطور
الدكتور مدحت مريد صادق، ابن قرية نجع سبع التابعة لمركز أسيوط، بعد حصوله على البكالوريوس والماجستير من كلية العلوم جامعة أسيوط، حصل على الدكتوراه من جامعة «كارل- فرانسنس» بالنمسا التى أهدت العالم ثلاثة من مؤسسى علم سلوك الحيوان «الإيثولوجى» الذين فازوا بنوبل 1973
بينهم الأشهر كونراد لورانس، أمضى خمس سنوات متقطعة فى جامعة «لُند»، السويدية دارسا التواصل الفيرومونى فى عالم الحيوان، حيث تستخدم الحشرات الرسائل الكيماوية لإدارة كافة شؤون حياتها. وعمل لمدة عام دراسى بجامعة أولم الألمانية فى قسم «البيولوجيا العصبية»المعنى بالتفاعلات التى تقف وراء السلوك الذى نلاحظه فى الإنسان وفى طائفة عريضة من أنواع الحيوان. نال عضوية العديد من الجمعيات والروابط العلمية الأوربية والأمريكية، ورفض الهجرة منتميا إلى جامعته الأم فى وطنه حيث يعمل الآن أستاذ بيولوجيا السلوك بكلية العلوم، جامعة أسيوط ووكيلا للكلية لشؤون خدمة المجتمع وتنمية البيئة.