كتاب فرنسى عن المواطن «سرحان عبدالبصير»

مي عزام الأربعاء 15-06-2016 21:21

شعرت بالصدمة عندما قرأت نظرية عالم الاجتماع البولندى زيجمونت باومان عن «النفايات البشرية»، فقد اعتبر أن معظم سكان الدول أصبحوا عالة، حتى على دولهم نفسها، وانتقد نظرة النظام الرأسمالى للناس باعتبارهم «سكانا زائدين عن الحاجة»، وكنا قد سمعنا لسنوات طويلة تصريحات الرؤساء والمسؤولين عن خطورة الزيادة السكانية، ودعوتهم المتكررة لتحديد النسل، والحد من الإنجاب.

ومنذ أيام طالعت كتابا لأستاذ الاقتصاد الفرنسى «بييرنويل جيرو»، بعنوان «الإنسان غير المفيد» يناقش فيه نفس القضية تقريبا، فى المجتمعات الغربية، برغم قلة عدد سكانها، حيث يكشف أن العيب ليس فى العدد، ولكن فى طبيعة النظام الاقتصادى نفسه الذى يؤدى إلى اختلال منظومة العمل والدخل، فهذا النظام المالى المتطرف يضخ الملايين فى أرصدة النخبة، ويترك الكثير «عمّالاً بلا عمل» و«فلاحين بلا أرض»، حتى إن كثيرين فى هذه المجتمعات صاروا يفضلون البطالة الصريحة على البطالة المُقَّنعة، ويرفضون قبول العمل الرخيص، فيعيشون على مساعدات الآخرين سواء حكومية أو من الأهالى.

ويؤكد «جيرو» أن ظاهرة التهميش الاجتماعى تتسع، وعدد المهمشين يتزايد، بحيث انعكست هذه الحالة الاقتصادية على إحساس المواطن سلبا بإنسانيته، فأصبح يشعر بعدم جدواه، بل عدم جدوى الدولة، والحياة نفسها، فهؤلاء الفقراء الجدد ليسوا عاطلين عن الموهبة، لكنهم تشبعوا بالقيم التى تروج لها إعلانات الحداثة ومفاهيم التنمية البشرية، وصار لهم تصور أفضل عن حياتهم، لا يملكون أى وسيلة لتحقيقه ولا حتى لتحسين مصيرهم أو أوضاعهم الاجتماعية، ولهذا فإن سلوكهم السلبى هو نوع من الاحتجاج على التفاوت الاجتماعى وتجاهل مبدأ المساواة.

ويحذر جيرو من أن هذه المشاعر السلبية للمواطن تجاه نفسه، وتجاه الأنظمة المالية والسياسية- تهدد بما يسميه تآكل الجسد الاجتماعى، بل تفاقم مشاعر الحقد، وتزايد معدلات الجريمة، وفتح روافد تغذى دوافع العنف والإرهاب، وتشجع على الاعتقاد الواسع بخرافة النظام، والارتكان إلى مفهوم فوضى العالم.

ويوضح جيرو أن الرأسمالية تهتم باستثمار كل شىء: المعادن، الطاقة، الاتصالات، مساحيق التجميل، أوراق الزينة، لكنها لا تهتم بدرجة كافية باستثمار البشر، بل إنها تثبت كل يوم أنها ليست بحاجة لهم إلا كمستهلكين، وبالتالى اتسعت الفجوة، كما قال من قبل مارك بوكانان، حيث يزيد الأغنياء ثراءً، ويزيد الفقراء فقراً.

الدول المتقدمة تحاول أن توازن بين فساد الرأسمالية وتقديم مرطبات اجتماعية مثل العلاج المجانى والإعانات والتكافل، لكن نفايات الدول تجاهر علنا أنها لا تستطيع توفير الخدمات الأساسية (مثل التعليم والصحة) بمستوى لائق، بل أنها تشكو طول الوقت من المواطن العاطل الذى لا يقدر جهودها، ولا يشكرها، لأنها توفر له الخدمات (مثل الماء، الكهرباء) بأسعار أقل من قيمتها!

وهكذا فإن نفايات الدول، وقد نسجت هذا المصطلح فى مقابل مصطلح نفايات البشر تطالب شعوبها بدفع أسعار الخدمات بقيمتها الحقيقية، مضافا إليها تكلفة الفساد الحكومى وهدر المال العام، وأموال الضرائب التى يدفعها الفقراء قبل الأغنياء تصبح كادو لذئاب الفساد، بينما الشعب ضج من المعاناة ومن شعارات محاربة الفساد بلا جدوى، ومن الامتيازات التى تحصل عليها مؤسسات وأجهزة وأشخاص، لذلك قرر أن يضرب عن العمل بشكل نفسى، وهذا أخطر ما يهدد الأمن القومى المصرى، لأن الجسور والمدن الجديدة ومشاريع الإسكان وشق الطرق، لن يكون لها أى قيمة عند شعب لم يعد يشعر بقيمته فى هذه الحياة، ولم يعد يشعر بدوره فيها، فبدلا من أن يتكلم ويشارك، يجد من يقول له: اسمع واسكت، وبدلا من أن تشجع الدولة أفكاره، تخبره أن عليه أن يسمع كلامها هى، فهى الحكومة التى تعرف، وتفهم كل شىء أكثر من سرحان عبدالبصير، فهو مجرد أرنب، وعليه أن يظل كذلك، لأن الحياة أصبحت الآن متاحة فقط لمن يملك أنياباً حادة، ويستطيع أن يأكل اللحم حياً، أما الأرانب، مثل سرحان، فهم سكان زائدون عن الحاجة!.

ektebly@hotmail.com