استقلال نفيسة البيضا (شخصيات تبحث عن مؤلف -5)

مي عزام الأربعاء 15-06-2016 00:09

قضت نفيسة السنوات العشر الأولى من زواجها بالأمير مراد بك، في مرحلة النضج الشخصي، والتمكين الاجتماعي، حيث توفرت لها مساحة من الحرية والاستقلالية في صقل ثقافتها ووتوسيع علاقاتها الاجتماعية، كما أتاحت لها الفرصة لاستثمار أموالها وبناء حالة من الهيبة والمكانة في بيوت المماليك، وفي بيوت الجاليات الأجنبية أيضا، حيث تعرفت على زوجات القناصل وكبار التجار الأجانب، وهذا التوسع في المعارف يسر له رؤية مصر بصورة مختلفة، بعيدا عن الصراعات الداخلية بين الأمراء الذين أعمت بصائرهم صراعات السلطة ومؤامرات الطمع الداخلي، وربما كانت هذه الرؤية هي أوضح طريقة أظهرت لها حجم الاختلاف في الطموح بينها وبين زوجها المحارب الذي لا يعتمد في حياته إلا أسلوب القوة وفرض السطوة، وكانت السفريات المتعددة للأمير مراد نافذة حرية ساعدت نفيسة في تكوين عالمها الخاص، لكن السفريات الاختيارية القصيرة للأمير تحولت إلى منطقة الأزمات منذ عام 1784م بعد مرور عقد كامل على زواجها، فقد غادر مراد بك القاهرة محتجاً على شريكه في الحكم ابراهيم بك، وسافر غاضباً إلى منية بني خصيب (محافظة المنيا) ، في الوقت الذي وصل فيه إلى القاهرة الوالي العثماني الجديد محمد باشا، لكن نفيسة قادن لم تغادر مع زوجها، وظلت في بيتها بالأزبكية تدير أعمالها بلا قلق أو خوف من ظهور بوادر الصراع على السلطة بين زوجها وشريكه في الحكم ابراهيم بك شيخ البلد، الذي أرسل إليها وفدا يطمئنها ويمهد الطريق لمصالحة مراد بك، ولما أرسلت نفيسة لزوجها بهذه المعلومات لم يهتم، وظل محتجا وغاضبا، فاتفق إبراهيم بك والأمراء الكبار على إرسال وفد مكون من محمد أفندي البكري والشيخ أبي الأنوار شيخ السادات والشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر حينذاك لتطييب خاطر مراد بك وطلب الصلح والرجوع على أن يقبلوا بكل شروطه، ما عدا عزل أحد من خشداشينهم، فلما سافروا إليه رفض الصلح وتعلل بأعذار، وقال لهم: إنني لم أخرج من القاهرة إلا خوفاً على نفسي من الغدر، فإن ضمنتم وحلفتم لي بالأيمان أنه لا يحصل لي منهم ضرر وافقتكم على الصلح.

هذا يعني أن مراد بك كان خائفا في الوقت الذي رفضت فيه زوجته ترك القاهرة، وواصلت متابعة أعمالها وصلاتها مع زوجات المماليك ورعايتها للفقراء الذين تنفق عليهم، برغم أن الصراع بين الشريكين تفاقم حتى وصل إلى تبادل الضرب بالمدافع في إحدى المعارك، حتى اشتد الكرب والضنك على الناس، وانقطعت الطرق القبلية والبحرية براً وبحراً، وكثر تعدي المفسدين وغلت الأسعار وشح وجود الغلال وزادت أسعارها، وتمادى جنود مراد بك في النهب والسلب في بر الجيزة وأكلوا الزروعات، ولم يتركوا على وجه الأرض عوداً أخضر، بل أنه قام بتعيين فرقة لقبض الأموال من المديريات وتحصيل غرامات الفلاحين، وظن الناس أن مراد بك انفرد بالحكم، وحصلت حالة من الذعر، واشتد خوف الأمراء بالقاهرة من الأمير المتمرد، وسرت الشائعات عن هروب إبراهيم بك، فانصرف عنه كثير من الأمراء، ما اضطره للبحث عن وساطة لطلب الصلح، وأبلغ الست نفيسة بذلك، فوعدت بتهدئة النفوس وتهيئة الطريق للصلح بعد أن ساءت الأحوال وعمت الفوضى، حتى أنها استيقظت قبل أيام على جلبة وأضواء حمراء اضاءت سماء الأزبكية في الليل، وتبين أن هناك عددا من الحرائق الغريبة دمرت الكثير من بيوت الأزبكية، وأن الفوضى تهدد بخراب كل شئ بعد صراع الشريكين، وشكوى الناس من غياب الأمان زيادة المغارم والمظالم.

وعقب عيد الأضحى عام 1784 تم تشكيل وفد من الأمراء بقيادة الشيخ الدردير شيخ المالكية، وتوصلوا إلى مصالحة مع مراد بك، بقبول كل شروطه مقابل شرط واحد وهو بقاء ابراهيم بك شيخا للبلد (أمير مصر)، وعاد مراد بك أكثر قوة ووحشية، وتمادى في فرض الغرامات وتحصيلها، وزاد جنوده في البطش والافتراء على الخلق، وبدأت الاحتجاجات تتوالى، بينما كانت زوجته تنأى بنفسها عن ذلك، حتى أنه أقام قي قصره بالجيزة وبقيت هي مستقلة بنفسها في قصرها بالأزبكية، لكنها لم تتوقف عن نصحه بالتخفف من التصرفات العدائية ضد الجميع، وحذرته من وصول حالة السلب والنهب إلى التجار الأجانب، الذين تعرضت قوافلهم للمصادرات والسرقات، وكانت نفيسة خاتون قد تعرفت على عائلات قناصل الدول الأجنبية في القاهرة، وصارت صديقة لزوجاتهن، وسمعت الكثير من الشكاوى عن هذه الأمور، وأنها تغضب قادة الدول في الخارج، وتهدد بتفاقم العواقب

لم يستمع مراد بك إلى نصائح زوجته، حتى فوجئ بثورة عارمة من الأهالي في الغورية والحسينية، تداخل معها المجاورين في الأزهر، واعتصموا بالجامع، وطالبوا برفع الظلم واسقاط المغارم، لكن مراد بك استمر في عناده، فوصلت الشكاوى إلى الباب العالي، وقرر السلطان التحرك ضد ما يحدث في مصر، وأرسل بمكاتبة إلى الوالي وشيخ البلد لضبط الأمور، فاجتمعوا مع مراد بك، فقال للباشا العثماني (الوالي): ليس لكم عندنا إلا حساب (توريد أموال الجباية والضرائب)، أمهلونا إلى بعد رمضان وحاسبونا على جميع ما هو في طرفنا نورده.

فقرر السلطان إرسال قوة عسكرية للسيطرة على الحكم الذي أفلت من يد الوالي، وأصبح عمليا في يد مراد بك وقواته، ولما وصلت مقدمة الأسطول إلى الإسكندرية، أرسل مراد بك إلى الوالي يهدده: "عليكم بسحب هذه القوات إلى حيث كانت، وإلا فلن نشهل الحج ولن ندفع لكم شيئاً مما نحصله، وهذا آخر الكلام.

وشعر إبراهيم بك بالورطة وأخذ يلاطف كلاً منهما، ثم اتفقوا على اجتماع يحضره المشايخ كممثلين للمحتجين المعتصمين في الأزهر، والتوصل إلى اتفاق مكتوب، لنزع فتيل الأزمة، وعدم إرهاق السلطنة بالتدخل المباشر، لكن الأمور تفاقمت، ووصلت القوات بقيادة حسن باشا القبطان إلى ثغر الإسكندرية، واقتربت المواجهة، واجتمع الأمراء في بيت إبراهيم بك وعزموا على المحاربة، واتفق الرأي على تشهيل تجريدة بقيادة مراد بك إلى جهة فوة لقطع الطريق على حسن باشا، وإرسال مكاتبات بالحساب لإغلاق المطلوب، على أن يرجع من حيث أتى، وإلا فإنها الحرب، لكن القبطان رفض أي استجابة، وانسحبت قوات مراد بك بعد أن دب الخلاف بين الأمراء، وأمر إبراهيم بك بإخلاء منزله من كل ما فيه إلى بيوته السرية الصغيرة، فلم يترك إلا فرش مجلسه، حتى يتمكن من الفرار بسرعة وسهولة إذا استدعى الأمر.

وهكذا أصبحت نفيسة خاتون للمرة الثانية زوجة لأمير مطارد هارب من السلطات، لكنها كعادتها لم تفكر في الهرب واستمرت تواجه الريح المعاكسة، فلما وصل حسن باشا القبطان إلى القاهرة، أمر بـ"تسمير" بيت مراد بك، وبيت إبراهيم بك الذي بالأزبكية.

فماذا فعلت نفيسة في هذا الموقف العصيب؟

في المقال المقبل نتعرف على بقية القصة.

ektebly@hotmail.com