من قتل عبدالله كمال؟!

خالد البرماوي الإثنين 13-06-2016 23:11

دائرة الاتهام تتسع لثلاثة كتبوا بأيدهم بصورة منفردة أو مجتمعة السطور الأخيرة في حياة الأستاذ عبدالله كمال، التي تحل هذه الأيام ذكرى وفاته الثانية.

ورغم معرفتي القصيرة نسبيا بعبدالله كمال، إلا أن شخصيته ومهنيته تركا في نفسي أثرًا كبيرًا، لا يختلف عن الأثر الذي تركه قتلته في حياتي من بعده، ومازال صدى ذلك يتردد بداخلي باستمرار محذرا من مصير مشابهة إذا اتبعت نفس النهج، جرس مرعب جعلني أنتبه بشدة، وأغير من نمط حياتي لأبقى على قيد الحياة.

هذه كلمات إنسانية بحتة.. أرجوك لا تأخذها يمنيا أو يسارا، أو تحملها أكثر مما تحتمل.

*****

كان المعتاد أن ترى منه 10 اتصالات في اليوم الواحد، ومثلها وأكثر «إيميل».

وعادي جدا أن ترى منه «إيميل» في الثانية صباحًا، ثم مرة أخرى في السادسة صباحًا، ألا تنام يا رجل؟! للأسف لا، كان ينتحر عملا. كان هذا نمط حياته اليومي طوال العام الذي عملته معه في مشروعه الجديد وقتها «دوت مصر».

لذا كان منطقيا جدا أن يكون المتهم الأول بقتل عبدالله كمال هو الإفراط في العمل، وهو متهم خطير وله ضحايا كثر، ليس كمال أولهم، وللأسف لن يكون آخرهم.

في ظني الشخصي أن هناك ملايين من البشر يموتون سنويا بصور متعددة بسبب إدمان العمل Workaholic، والاستغراق فيه بكل الجوارح والحواس والطاقات الممكنة وغير الممكنة، دون لحظة راحة واحدة، أو تفكير في لماذا؟ وماذا بعد؟!

حب العمل والإخلاص له، لا يعنى أبدًا أن تفنى عمرك فيه، قد يكون هذا ما يستحق أن تعيش من أجله، ولكنه لا يستحق أبدا أن تموت من أجله، وتترك ويتركك أحباؤك وأصدقاؤك وحياتك قبل الأوان بأوان.

*****

المتهم الثاني في واقعة مقتل عبدالله كمال، كان نتيجة حتمية لما فعله المتهم الأول، ويكاد يكون شريكه في كل جرائمه. وهو التدخين، كان رحمة الله عليه مدخنا شرها، لا يدخن فقط «السيجار»، ولكن أيضا الشيشة.

ولا تكاد تراه دون سيجار في فمه، حتى عندما توقف لبضعة أيام عقب عملية «القلب المفتوح» التي أجراها قبل وفاته بشهرين تقريبًا، عاد مرة أخرى للتدخين بقوة مع تزايد ضغوط العمل.

وفي اعتقادي أن نهمه للتدخين ليس حبًا ولا ولعًا به أكثر منه بحثًا عن متنفس للتخلص من ضغوط ومسؤوليات العمل، وكثير من الناس ارتبط ذهنه بأن التدخين هو ما يمكن أن يخرجه من «موود» القلق أو الحزن.

*****

ثالث المتهمين على صلة أيضا بالمتهم الأول، قد يكون أقل المتهمين الثلاثة جرمًا ولكنه ليس أقلهم ضررًا، وهو النمط الغذائي السيئ الذي كان يتبعه أستاذ عبدالله كمال رحمه الله، والذي أدي لمشكلات كثيرة على رأسها السمنة الشديدة، ومع ضغوط العمل وقضاء أكثر من 16 ساعة بعيدا عن المنزل، يكون المرء عرضة لعادات غذائية تتسبب في مشكلات صحية جمة.

ورغم أنني أشهد على محاولات عديدة من زوجته السيدة ريهام فؤاد الحداد، ومديرة مكتبه ميرا كمال، على إجباره على تناول وجبات صحية، ولكن للأسف كانتا تفلحان مرة وتفشلان عشر مرات، أمام عناده واستسلامه لضغوط العمل وتحدياته، وشعوره الطبيعي بأنه يحتاج لمكافأة صغيرة مع أحداث يومه الصعبة.. وكان التدخين الكثيف أو وجبة دسمة هو إجابته.

*****

ستقول لي إن الأعمار بيد الله، وأن هذا أجله، ولكل أجل كتاب. وماله، هذا لا يمنع أن هناك أسبابا تقصف العمر أو تطيله، وكلها بمشيئة الله؛ وإلا ما كان هناك معمرون في الأرض أعمارهم تتجاوز المائة والعشرين لأنهم يتبعون نمط حياة وغذاء فريدين، وما كانت هناك بعض المناطق وبعض المهن يموت أصحابها في سن مبكرة.

وليس غريبا أن الكثير من الدراسات القديمة والحديثة تؤكد أن العمل الصحفي يسبب أزمات قلبية وحالات قلق واضطرابات في الجهاز الهضمي.

وحسب العديد من الدراسات فمتابعة الأخبار اليومية تؤدي إلى ظهور حالات اكتئاب منتظمة وأرق دائم، كما تؤدي إلى مشاكل في التنفس، وارتفاع نسبة الإصابات بالنوبات القلبية، فما بالك بمن يعيشون ويصنعون وينشرون هذه الأخبار.

لم تأت إذن من فراغ عبارة «الصحافة مهنة البحث عن المتاعب» فهي مهنة صعبة وشاقة، لا تقتات فقط على الأبدان، ولكنها تتسبب في تآكل العقول، خاصة في هذه الحقبة المهببة التي نعيشها.

ربنا يعفينا ويعفيكم. ويغفر للأستاذ عبدالله كمال زلاته، بقدر عطفه وإحسانه على الكثير من الناس.

*****

وعن نفسي، سأظل أحمل لـعبدالله كمال ذكري جيدة على الجانب الإنساني والمهني، أما السياسي فدعنا منه الآن.

وإليك اعتراف صغير مني: إنني ما عدت أري الاختلافات السياسية بتلك الأهمية التي كنت أعتقدها، ويوما بعد يوم أراها تتقزّم أمامي، صحيح لم تختفِ، لكنّها لم تعد شاغلي الأول، لم أعد أقيس مساحة الاختلاف والاتفاق مع الناس، على مقياس التوافق السياسي معهم، قد أتحرّك قليلا لمساحة تفاهم، أو أتراجع للشد والجذب، ولكني لم أعد أسقط في حفرة شخصنة الاختلافات!

ويا عزيزي كلها «اختلافات» في وجهات النظر، ومهما كانت حدّتها، ما كان لها أن تتحول إلى «خلافات» ثم نزاعات تقضي على إنسانيتنا، وتدخل بنا مساحة ملغومة وملعونة من التكفير والتخوين والدماء.

فقط كن إنسان، فالإنسان هو حقيقتنا المجردة، قبل أن نتلون بأي لون أو عرق أو جنس أو معتقد، الإنسان هو ما نحن عليه مع أنفسنا في الغرف المغلقة عندما نخلو بها، وعندما يخلو الآخرون بسيرتنا في غير وجودنا.. فإذا اختفى الإنسان فينا متنا ونحن أحياء، وإذا بقي فنحن على قيد الحياة مهما فارقناها، كذلك كان عبدالله كمال.

للتواصل مع الكاتب

KhaledPress@gmail.com