صعود نفيسة (شخصيات تبحث عن مؤلف -4)

مي عزام الإثنين 13-06-2016 21:13

نحن الآن في منتصف القرن 18.. مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية، والأمير على بك الكبير امتنع عن دفع الجزية للباب العالي في تركيا، وصك عملة جديدة عليها صورته، وأعلن استقلال مصر، وبدأ يتوسع عسكريا للسيطرة على الشام والحجاز بمساعدة قائد جيوشه المملوك الشاب محمد بك أبوالدهب، وفي هذه الأيام وقعت عينه على إحدى جواريه، تدعى نفيسة، فأمر بتخصيص جناح مستقل لها، وجعلها محظيته الأولى.
دبرت الدولة العثمانية خطة للقضاء على طموح على بك الكبير، واستطاعت الوصول إلى أبوالدهب وأغرته بالسلطة المطلقة على مصر إذا تخلص من سيده، وبدأ أبوالدهب في ترتيباته، واتفق مع عدد من الأمراء للعودة من الشام أثناء القتال، وترك على بك هناك، للسيطرة على الحكم في القاهرة، ومنع على بك من دخولها، لكنه أصر على العودة فخرج أبوالدهب عام 1773م بجيش كبير لملاقاته قرب الصالحية وهزمه، وكان الأمير مراد حريصا على قتل على بك، لأنه حصل على وعد من ابو الدهب بحصوله على الجارية نفيسة التي شغف بها، في حال قتل أبوالدهب، وفعلا استطاع مراد بك أن يصيبه عدة إصابات حتى وقع عن فرسه، لكن عددا من المماليك أسرعوا وأحاطوا به، ومنعوا قتله، وأخذوه أسيرا إلى خيمة القائد محمد أبوالدهب، الذي هب لاستقباله خارج الخيمة، ووضع قبلة على رأسه، وحمله على ذراعيه ودخل به إلى الخيمة، وأمر بنقله للعلاج في دار الست نفيسة في درب عبدالحق على بركة الأزبكية (عند مدخل نفق الأزهر الآن بميدان الأوبرا)، وكان على بك قبل سفره إلى الشام قد أعتق محظيته نفيسة وصارت امرأة حرة، وآخر زوجات الرجل الكبير، بعد زوجاته الثلاث «عائشه قادن» معتوقة أستاذه إبراهيم بيك كتخدا، وجلسن خاتون التى توفت في حياته، ومنور خاتون، ثم نفيسة خاتون التي كانت أحب زوجاته إليه كما قالت الروايات التاريخية.

اهتمت نفيسة بعلاج زوجها، لكنها كانت تشعر بكل ما يحيط بها من مؤامرات، ولم يكن زوجها يستجيب للعلاج، وحالته تتدهور حتى اشتبهت أن أبوالدهب لوث جروحه بالسموم القاتلة، ليخفف من وطأة خيانته لسيده، ويظهر أنه حزين على موته، وبالفعل بعد أسبوع واحد مات على بك الكبير في 8 مايو 1773، وأمرت الست نفيسة بدفنه إلى جوار أستاذه ومربيه الأمير إبراهيم كتخدا في القرافة الصغيرة بمقابر الإمام الشافعى.


تولى أبوالدهب الحكم خلفا لسيده، بمساعدة أقوى مماليكه مراد بك، وإبراهيم بك، واسماعيل بك، الذين تقاسموا الحكم بعد ذلك على مصر طوال عقدين من الزمان عانت فيها مصر أكبر درجة من الظلم والبطش والسلب والنهب، وحاول أبوالدهب أن يمنع اللغط الذي بدأ يدور بين الناس عن خيانته لأستاذه، وخيانته لحركة استقلال مصر، فلجأ إلى الباب العالي في الأستانة، وحصل على فرمان شرعي بحكم مصر، لكن ذلك لم يمنع الناس من الحديث، فاستصدر السلطان العثماني فتوى من قاضي القضاة والمفتي الأعظم في السلطنة باعتبار على بك ورجاله وحلفائه وأنصاره بُغاة خارجين على السلطان، وبالتالي لابد من قتلهم، لأنه تعاون مع أعداء السلطنة، واستعان ببلاد الموسقو المسيحية (روسيا) التي تحارب السلطان وتعادي دولة الخلافة الإسلامية العثمانية.
لم تمض شهور طويلة، وفي أوائل أغسطس 1773 كان مراد بك قد تزوج نفيسة خاتون وسكن قصرها بالأزبكية، وحصل على عدد من مماليك على بك الكبير، وترقى إلى رتبة أمير الحج، بينما كان أبوالدهب يحاول ترتيب الأوضاع في الشام مات فجأة في عام 1775م بعد سنتين فقط من وفاة سيده على بك الكبير، وأشيع أنه مرض بالحمى التيفودية ومات على إثرها، لكن الناس كانت قد تعودت على عدم تصديق التقارير الرسمية، وكما سرت شائعات عن تسميم على بك، سرت شائعات شبيهة، تقول إن الشيخ ضاهر العمر حليف على بك في الشام، فشل في مواجهة جيوش أبوالدهب، فاستمال الطباخ الخاص له عن طريق أحد معارفه، ووعده بمكافأة مالية كبيرة ودارا عظيمة في غزة، إذا دس السم في طعام القائد أبوالدهب، ولم تثبت هذه الرواية في كتابات المؤرخين كمعلومة قاطعة، لكنها ظلت شائعة على طريقة ردد الناس، وذكرت أنباء..

ولما مات أبوالدهب، وتم دفنه في الجامع الذي أقامه قبالة الأزهر، لكن الناس تجنبت الصلاة في الجامع، مرة كاحتجاج صامت على خيانة أبوالدهب، ومرة بحجة غرابة شكل مأذنته التي تحمل عددا من القدور تشبه «الزلع» التي كان يتم إخفاء الذهب فيها قبل دفنها في باطن الأرض، ومرة أخرى استهجانا لارتفاع مأذنة هذا الجامع على مآذن الجامع الأزهر في ذلك الوقت.
لكن أيام تمضي ويمضي معها الكثير، ومع الوقت صار الأمير مراد مسيطرا على الشؤون العسكرية، ومتحكما في كل شىء، لأنه الأكثر قوة وتهورا، في مقابل شريكه الرئيسي إبراهيم بك، وإسماعيل بك الذي تم إزاحته سريعا من المشهد، وفي هذه السنوات ارتفعت أسهم نفيسة خاتون، وتقربت منها هوانم الأمراء، وكانت قد بدأت نشاطا تجاريا في منطقة صناعة الحلوى والسكر والمواد الغذائية، في المنطقة التي تسمى حتى الآن «السكرية»، كما أنشأت وكالة تبيع فيها المحاصيل التي تأتيها من الأقاليم إلى ساحل بولاق، وتوسعت في استثمار ميراثها من على بك، لأن الظروف سانحة تماما، باعتبار زوجها الجديد أصبح هو السلطة المطلقة التي تفتح الأبواب أمام كل شىء وتضمن الحماية، وتقرب الآخرين منها، وذاع اسم «نفيسة المرادية» كاسم شائع يتداوله العامة والخاصة بدلا من اسمها السابق «نفيسة خاتون» أو «نفيسة قادن» أو «نفيسة البيضا»، ولما كانت في الأصل جارية مجلوبة من بلاد الجرج (جورجيا)، ولم يكن لها غير اسمها المفرد، فكان من المعتاد أن يضاف إليها كبقية الجواري اللاتي صرن أحراراً اسم «عبدالله» كلقب للوالد مجهول الاسم، فصار اسمها نفيسة قادن عبدالله البيضا.

وللحديث بقية
ektebly@hotmail.com