أن يصفعك أحدهم على «قفاك» وأنت تسير في أمان الله في الشارع، فهذا عادى.. «واحد أهبل مش هاعمل عقلى بعقله»، وأن تلقى عليك «أرشانة» مية الغسيل وأنت أسفل بلكونة منزلها تنتظر صديق ما، فهذا أيضاً عادى «واحدة مرووشة عندها هسهس ومحتاجة علاج»، وأن يسألك أحدهم عن ولاعة، ليشعل بها سيجارته «اللف»، في نهار رمضان، وأنت تهم بالدخول إلى المسجد لتصلى، فهذا أمر قد يمر، أما أن يلعب أحدهم بمشاعرك ويقنعك أنك «ستلهف وجبة إفطار كاملة»، يومياًً في رمضان، وقبل أن تقوم من مقامك ستجد مظروفاً به «50 جنيه حتة واحدة»، يباغتك أحدهم بوضعه في يدك، دون مقابل، فهذا هو رابع المستحيلات.
لم يكن ذلك الأمل البعيد، سوى حلم من «أضغاث أحلامى»، وأنا في ليسانس الحقوق، خاصة أننى كنت أعتمد على نفسى بعد وفاة أبى، ولا أقرب مليماً من معاشه، وأحاول قدر استطاعتى أن أعمل مرة في مطعم، يطردنى صاحبه لأننى ذات مرة، ولا أدرى كيف وضعت غطاء زجاجة مياه غازية في أحد الساندوتشات لزبون كان بإمكانه أن «يسترنى»، وأخرى في فرن بلدى، تسببت في حبس صاحبه، بعد أن أبلغت عنه «التموين»، بسبب تهريبه للدقيق المدعم، وحين علمت زوجته «المعلمة»، أننى صاحب «الإخبارية»، جعلت «صبيانها» يلقنوننى علقة ساحنة لن أنساها، وثالثة عامل في لوكاندة، كان مديرها «حرامى»، ولا يسجل جميع أسماء النزلاء في «دفتر الشرطة».
ودفتر الشرطة، هذا لمن لا يعرفه، دفتر تلزم أجهزة الأمن مديرى اللوكاندات، بتدوين أسماء وبيانات جميع النزلاء به، حتى إذا تم الكشف على الأسماء، ليلاً، من جانب «المديرية»، تجد مأمورية في الفجر على رأسك، ودون استئذان تقتحم «الهدف» وهو الغرفة التي يبيت فيها «ابن الهربانة»، المطلوب القبض عليه، بعد أن يظهر اسمه، في قائمة المطلوبين للبيه رئيس المباحث «شخصياً».
كنت أظن قبل عملى في اللوكاندة أن بإمكانى أن أرتكب جريمة ما في البلد، وأنزل في لوكاندة شعبية، هرباً من الأعين، لكنى أدركت أننى بفعلتى هذه كمن يهرب من مباحث تنفيذ الأحكام، ليختبئ في قسم الشرطة.
ظل صديقى «أبوزمل» في الجامعة، يلعب بأفكارى، ويدغدغ مشاعرى، بحديثه عن «اللحمة والـ50 جنيه»، حتى خارت قواى، ووافقت على الفور، على أن أكون رفيقه في هذا اليوم، وظللنا نضع خطة لإنفاق «الثروة» التي ستهبط علينا من السماء في المساء، وحين كان يحلم بشراء «بناطيل وقمصان وشرابات من شارع طلعت حرب»، كنت أخطط لأن أستبقى يومياً من الـ«حتة بخمسين» على 5 جنيهات لنفسى، وأرسل الباقى في «البوستة»، وحين ينتهى الشهر الكريم «يكون ربنا فرجها بشغلانة».
كنت أسير ليلة أول أيام رمضان، في الشوارع، وكأننى طاووس، وتذكرت أحمد توفيق، في فيلم «شىء من الخوف»، بعد أن شرب حتى الثمالة وأخذ يهذى «أنا عتريس.. أنا عتريس»، وعدنا إلى حجرتنا في لوكاندة أخرى متواضعة، وكانت حجرتنا مشتركة (4 أسرة، أجرة الواحد فيها جنيهان في الليلة، التي ما أن تنتهى حتى تطالبك إدارة اللوكاندة بأجرة يوم جديد، حتى لو كانت الساعة تجاوزت منتصف الليل بـ5 دقائق)، وإما الدفع أو الطرد في الشارع «طردة الكلاب»، في منتصف الليل.
وفى الصباح ذهبنا إلى الجامعة، وكنت أسير كأننى عميد كلية الحقوق، من أثر النعمة التي ستحل بى في المساء، وما أن انتهت المحاضرات، حتى أخذتنا أقدامنا إلى النيل، نتسكع قليلاً، ونخطط لمستقبلنا، وما أن مر العصر بسلام، حتى توجهنا إلى «ولى النعم».. هكذا كنت أطلق على صاحب المائدة، الذي تصورته في هيئة شيخ، كثيف اللحية، مشرق الوجه، ممتلئ الجيب.
جلست إلى المائدة، وكان قلبى يهفو حنيناً إلى «مولانا»، الذي ظننت أنه «ندر ندر لله»، وها هو يفى به معى وأمثالى من «المساكين ولاد الجعانة»، وحين فرغت من الطعام، وكان أشهى ما أكلت على مائدة رحمن «فيكى يا مصر»، اصطحبنا وآخرين، اثنان كان أحدهما يتحدث «عربى مكسر»، وأخذنا إلى حيث «مولانا»، وفى رحاب «ولى النعم»، حصل كل منا على مظروف به المبلغ الموعود، وحين أخرجت المظروف في الشارع، وجدت مطبوعا عليه 3 كلمات فقط «خريستو للمشروبات الروحية»، ولم يكن مولانا سوى «الخواجة صاحب الخمارة الشهيرة في العتبة».