زمن ديليسبس

عبد الناصر سلامة الجمعة 10-06-2016 21:40

بالتأكيد الراحل فرديناند ديليسبس، وهو يهم بالتخطيط لشق قناة السويس، التى افتتحها فى عام ١٨٦٩، لم يكن يدور فى خلده أبداً أن أهميتها يمكن أن تتراجع يوماً ما على المستوى العالمى، البعض منه بفعل عوامل لا دخل لأصحاب المشروع بها، والبعض الآخر من صنيعتهم، لم يكن الرجل يدرك فى ذلك الزمن البعيد أن جليد القطب الشمالى يمكن أن يذوب ليفتح ممراً بديلاً لعبور السفن، لم يكن يدرك أن قطاراً للبضائع سوف يتحرك ذات يوم من الأراضى الصينية حتى نهاية قارة أوروبا، مخترقاً بلداناً عديدة من دول الاتحاد السوفيتى السابق، وصولاً إلى ألمانيا وإسبانيا، لم يكن يدرك أن طائرات الشحن العملاقة سوف تكون منافساً يوما ما للناقلات البحرية.

على الجانب الآخر، لم يكن يتوقع أحد أن قرية أم الرشراش المصرية التى احتُلت وأصبحت ميناء إيلات الإسرائيلى، الذى سمح لهم بالنفاذ على مضيق العقبة، يمكنهم من خلاله شق قناة إلى البحر الميت، يمكن أن تشكل منافساً ذات يوم بأى نسبة مع قناة السويس، أيضاً لم تكن جزيرتا تيران وصنافير سعوديتين، حيث كانت فى السابق المياه الواقعة بين أرض سيناء والجزيرتين إقليمية خالصة، وبالتالى كان يمكن فرض رسوم على أى عبور فى هذا الإطار المنافس، كما كان الأمر فى السابق، مما سيجعل اختيار الوجهة الإسرائيلية أعلى تكلفة بكثير من وجهة قناة السويس، أما الآن فقد اختلف الأمر وأصبحت المياه دولية، فى بادرة تسهيل على ما يبدو للمشروع الإسرائيلى، حسب رؤية بعض المحللين.

كان متوقعاً تراجع حجم التجارة العالمية، نتيجة انتقال المصانع والشركات الكبرى إلى أماكن متعددة عبر العالم، حسب مناطق الاستهلاك والتوزيع منذ عام ٢٠٠٥، والتقارير الاقتصادية لا تكل ولا تمل من توضيح ذلك التطور، كان متوقعاً أيضاً الاعتماد فى نقل النفط والغاز على الأنابيب، براً وبحراً، وهو ما حدّ من حركة الناقلات.

الجديد هو تراجع أسعار النفط إلى الحد الذى جعل السفن والناقلات تُفضل الدوران حول رأس الرجاء الصالح، رغم طول الطريق، عن المرور بطريق قناة السويس، من خلال تسديد رسوم عبور، باعتبار أن الطريق الآخر سوف يصبح أقل تكلفة، وهو الأمر الذى توقعت معه الدراسات انخفاض السفن العابرة بنسبة تتراوح بين ٢٣ و٢٥٪‏، بخلاف ذلك الانخفاض الناتج عن كل العوامل السابق ذكرها مجتمعة.

كل ذلك وغيره جعل هيئة قناة السويس تعلن فى مارس الماضى منح تخفيضات بنسبة ٣٠٪‏ من رسوم سفن الحاويات القادمة من نيويورك بالولايات المتحدة، والموانئ الواقعة جنوبه، العابرة إلى موانئ جنوب شرق آسيا، ثم ها هى فى الخامس من هذا الشهر قررت زيادة التخفيضات من ٣٠٪‏ إلى ٦٥٪‏، فى محاولة لتدارك الأمر، وسط أزمة حقيقية تعيشها القناة من ديون وقروض وفوائد قروض، ليس آخرها مبلغ الـ٦٤ مليار جنيه الذى اقترضته من المواطنين لتنفيذ التفريعة الشهيرة، التى أطلق عليها البعض قناة السويس الجديدة، وهو القرض الذى ارتفعت معه فائدة السداد إلى ١٢٪‏.

المهم أن هناك أزمة حقيقية كان يجب أن يعيها المواطن من خلال شفافية رسمية توضح حقيقة ما جرى ويجرى، أرقام الديون المستحقة على قناة السويس، القروض التى تم الحصول عليها حتى بعد افتتاح التفريعة الجديدة، ولماذا، الرقم الحقيقى الذى تم إنفاقه على التفريعة، عدد السفن التى تمر بالقناة حالياً مقابل ما كان يمر قبل ذلك، الدخل السنوى للقناة خلال العامين الماضيين مقارنة بالأعوام السابقة؟

كلها أرقام فى نهاية الأمر سلبية، سوف تدعونا إلى المطالبة بوقفة حاسمة مع أولئك الذين أشاروا بإنفاق هذه المبالغ الطائلة على ذلك المشروع الذى استنزف مقدرات المواطنين دون أى جدوى اقتصادية، أما إذا تعلق الأمر بسحب مدخراتهم لرفع روحهم المعنوية، فهو أمر يحتاج إلى مزيد من التوضيح والمحاسبة أيضاً، حيث كان يمكن إنشاء ٦٤ مشروعاً عملاقاً بتلك الأموال، ترتفع معها الروح المعنوية إلى أقصى درجة.

هيئة القناة قالت فى بيانها الأخير، الذى نشرته على موقعها الرسمى، وأعادت الصحف نشره الأربعاء الماضى، إن تلك التخفيضات فى رسوم العبور جاءت تلبية لرغبة مشغلى السفن عملاء قناة السويس، وتشجيعاً لجذب المزيد من السفن للعبور، أى أن التفريعة التى تم إنفاق أموال المواطنين عليها ليس بإمكانها جذب السفن للعبور، هكذا أكدت الدراسات منذ البداية، هكذا نصح المتخصصون بعدم إهدار أموال المواطنين فى مشروع محكوم بفشله سلفاً، إلا أن دراساتهم ونصائحهم ذهبت هدراً هى الأخرى.

هكذا أصبحت القناة تسدد أموال المواطنين وفوائدها من ذلك الدخل المتراجع يوماً بعد يوم، ربما لم تكن الرؤية واضحة لدى ديليسبس، بحكم أن الزمن غير الزمن، نحن نتحدث عن مرور ١٤٧ عاماً، أما الآن فقد اختلفت الأوضاع، بل كانت هناك دراسات تؤكد، ومشورات تنصح، وهو ما كان يجب معه تطوير أفكارنا عن زمن ذلك الرجل بحكم المعلومات الجديدة المتوافرة.

على أى حال، إذا أخذنا فى الاعتبار أن كل دخل قناة السويس، سواء فى السابق أو اللاحق، يدور حول رقم الـ٥ مليارات دولار سنوياً، وإذا علمنا أن الصادرات الإسرائيلية تصل قيمتها «شهرياً» إلى خمسة مليارات دولار (٦٠ مليار دولار سنوياً)، ٩٣٪‏ منها صادرات صناعية وتكنولوجية، وإذا علمنا أن الدخل السياحى فى تركيا يحقق ما يصل إلى ٤٠ مليار دولار كل عام، فإننا سوف نكتشف أنه كان يمكن استثمار أموال المواطنين فى مشروعات أخرى أقل تكلفة، وأكثر ريعاً ورفعاً للروح المعنوية أيضا.