يبدو أن حالة السلام الدافئ مع إسرائيل، يعيشها البعض من طرف واحد، أو يشعر بها البعض كحالة خاصة، لا تنسجم أبداً مع الواقع، الذى يشعر به بقية الشعب، كما لا علاقة لها أيضاً بالواقع الإسرائيلى المستفِز والمستنفَر، فى آن واحد، المبادرات العربية الواحدة تلو الأخرى، دون أى رد فعل إيجابى، تعديلات على المبادرات، ولا حياة لمن تنادى، رسائل خاصة وعامة، دون أى تحرك من أى نوع، غزل رفيع وتنهيدات وآهات، والأوضاع محلك سر، بل على العكس، إلى مزيد من الأزمات.
آخر الاستفزازات الإسرائيلية كانت خلال الأيام القليلة الماضية، مع بدء شهر رمضان تحديداً، أفيخاى أدرعى، المتحدث باسم جيش الاحتلال، نشر على صفحته الرسمية بـ«الفيسبوك» مقطع فيديو، وهو يهنئ المسلمين بالشهر الفضيل، إلا أن خلفية الحائط الذى يجلس أمامه أفيخاى تحمل صورة ضخمة للهرم الأكبر «خوفو»، فى دلالة لم تعد خافية على أحد.
قال فى التهنئة إن هذا العام يأتى والمنطقة، بل والعالم، يعيش على واقع ظاهرة الإرهاب، وأنا أعتقد أن أعداء إسرائيل، باتوا يعرفون أنه بالإرهاب والعنف لن يستطيعوا النيل من إسرائيل وعزيمة الشعب، موجهاً الشكر للجنود المسلمين فى الجيش الإسرائيلى قائلاً: نحن نشكركم ليس لأنكم تحمون وطنكم، فهذا واجبكم، وإنما لأنكم تشاركوننا معانى هذا الشهر الكريم- على حد قوله.
هذا السلوك ذكّرنى بالواقعة الأخرى الغريبة والمستفزة، فى آن واحد، كانت فى أغسطس الماضى، المتعلقة بإطلاق اسم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على أحد الميادين العامة هناك، ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» وقتها: أن الميدان المزمع إنشاؤه يقع فى مدينة «كفار مندا»، وأن إطلاق الاسم جاء بناء على مقترح من أعضاء كتلة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة «حداش» التى تضم نواباً عرباً ويهوداً، فى مجلس المدينة، رغم اعتراضات حادة من سكان يهود، وأعضاء بالحركة الإسلامية هناك.
فى الواقعة الأولى، إذا كنتم أنتم المصريون تأخذون من صور المسجد الأقصى خلفية لجدرانكم، على اعتبار أنه أولى القبلتين، وثالث الحرمين بالنسبة للمسلمين، نحن فى إسرائيل نعتبر أن الأهرامات بالنسبة لنا كذلك، لها خاصية معينة، جاهر بها ذات يوم فى القاهرة مناحم بيجين، رئيس وزرائهم الأسبق، خلال حديث مع الرئيس الراحل أنور السادات قائلاً: هذا ما بناه أجدادى، مشيراً إلى الأهرامات من شرفة فندق «ميناهاوس».
قبل ٣٥ عاماً، جاهر بها بيجين شفاهة، الآن يجاهر بها أدرعى بالرمز الواضح جداً، دون أى اعتراض رسمى مصرى، على مثل هذه الممارسات، أو حتى ردود تتناسب مع طبيعة الاستفزاز، ثم ها هو يرى من خلال تصريحه، أن مقاومة الاحتلال، ضمن أعمال الإرهاب فى المنطقة، فهو يساوى بين ما يجرى فى سيناء، أو حتى سوريا والعراق، ومحاولات فلسطينية خجولة لتحرير الأرض، لم تعد تجد دعماً عربياً، بل على العكس، أصبحت هناك وجهة نظر عربية تنظر إلى المقاومة من نفس المنظور الإسرائيلى.
فى واقعة ميدان جمال عبدالناصر أيضاً، أرى أنها لم تكن تقل بجاحة وتحدياً عن الأولى، ذلك لأن الهدف من هذا الإجراء مازال غير واضح حتى الآن، ما هى الرسالة التى أرادت دولة الاحتلال إرسالها للداخل الإسرائيلى، وللداخل المصرى، فى آن واحد، معلوماتنا أن عبدالناصر كان عدواً لإسرائيل، معلوماتنا أن الإسرائيليين يكرهون عبدالناصر، حاربهم وتحداهم وقتل منهم، نعم هزموه شر هزيمة، إلا أنه مات على عدائه لهم، اللهم إلا إذا كانت هناك مستجدات لا نعرفها، فبعد أن أصبحت، بقدرة قادر، جزيرتا تيران وصنافير غير مصريتين، استناداً إلى ورقة وُجدت فى جيب جاكيت عبدالناصر نفسه، يصبح كل شىء ممكناً.
أتصور أن إطلاق اسم عبدالناصر على ميدان فى إسرائيل، ليس أمراً مُشرّفاً بأى شكل من الأشكال، لا لمحبى عبدالناصر ولا لمبغضيه، ليس مشرفا على كل الأصعدة فى مصر والعالم العربى عموماً، هو بمثابة تشكيك فى كل النضال العربى، فى الشخصية العربية ككل، فى القادة، فى التاريخ، فى كل شىء، وهو ما كان يحتم على كل المخلصين للشأن العربى اتخاذ موقف، وعلى الدولة المصرية اتخاذ إجراء، ولأن ذلك لم يحدث، فقد توالت الاستفزازات.
أستطيع الجزم بأن الممارسات الإسرائيلية، كما الأطماع الصهيونية، لم تتغير من عام ١٩٤٨، عنها فى عام ١٩٦٧، عنها فى عام ١٩٧٣، عنها الآن فى ٢٠١٦. بروتوكولات حكماء صهيون منذ عام ١٩٢١ لم تتبدل ولم تتغير حتى الآن. شعار إسرائيل «من النيل إلى الفرات» على باب الكنيست، لم يتغير أو يتبدل بأى اتفاقيات سلام سابقة، أو مبادرات سلام لاحقة. إسرائيل كما هى أيها السادة، بأطماعها ومخططاتها، كل ما هنالك أن الاستراتيجيات اختلفت، الآن العرب يقتلون بعضهم بعضاً نيابة عن إسرائيل، القضية لديهم تتعلق بتوقيتات محددة ليس أكثر، خلفية الأهرامات وميدان عبدالناصر، ما هما إلا رسالتان، كجزء من هذه التوقيتات، ونحن فى واد آخر تماما، وادى السلام الدافئ، الذى بدا أنه هو الآخر بمثابة رسالة ثالثة، فى موعدها أيضاً.