حسنًا لقد أضحت الكنافة بالريد فيلفيت، وفي أحيان أخرى بالبلو فيلفيت، ولا أخفيك لست أدري الفارق بينهما، فأنا ماموث متحجر من أولئك الذين كان أقصى ترفهم في الكنافة أن يأكلوها محشوة بالسوداني أو مطعّمة بالزبيب أو غاطسة في اللبن. ولا أدري ما الذي يحشر كلمات إنجليزية في سطر واحد بجوار كلمة «كنافة» في هذه الموجة الإعلانية الكاسحة عن أصناف من الحلوى لم يسمع بها إنسٌ من قبل ولا جان، لكن كما قال الشاعر:
والليالي من الزمان حبالى.. مثقلات يلدن كل عجيب
الكنافة بالريد والبلو فيلفيت الذي لا أدري الفارق بينهما وبين اليورانيوم المنضب، هي قرينةٌ طبيعية لما يحدث في الجزء السادس من ليالي الحلمية.
مسلسل وأغنية تيتره وموسيقاه التصويرية وأسماء أبطاله، كلهم سويًّا يمثلون شيئًا ما من ماضينا كأفراد.. شيئًا من هويتنا، من «الحنين» إلى حقبة ما نحبها كما هي، لا كما أعادوا إنتاجها مسخًا مفقود الروح يحوم حول الأجزاء الخمسة الأولى للمسلسل ليفسد رونقها بكل ما أوتي من قدرة على التشويه.
بل حتى في صور أبطال الأجزاء السابقة ممن انتقلوا إلى جوار الرفيق الأعلى، وتزين جدار المقهى، تذكيرٌ مفجع بأن «البعض» مات.
علي البدري الذي كان يضج براءةً وشبابًا.. مات! فما الذي نفعله نحن هنا؟
الأزمة هنا في «مفهوم» و«فكرة» استدعاء «الذي كان» قبل أن تكون في التطبيق المعطوب المعيوب.
وكلها ظواهر طبيعية تتجاور مع إعلانات الشركات الكبرى التي تستدعي رموز الماضي البعيد (الأحياء منهم) مع رموز الماضي القريب في مسوخ إعلانية تتوسل استعادة حقبة ليست بالبعيدة فيما يشبه الهروب الآمن إلى الوراء.
حيث ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، قبل الثورة والشهداء وتيران وصنافير وسوريا والعراق وداعش والطائرات التي تنفجر فتختفي، قبل القتل الجماعي والفُجر السياسي في الخصومة، قبل أحكام الإدانة التي تصدر بالجملة في مقابل أحكام البراءة التي تنصرف بسخاء لآخرين.. قبل كل هذه اللخبطة القيمية التي لم تترك شيئًا في محله.
الجميع يبدو كما لو كان يتمنى العودة بآلة الزمن لما قبل كل هذا الجحيم الذي خرج من القمقم.
وآخرون لاهم استطاعوا العودة للماضي ولا هم قدروا على التحرك للأمام.. فكان نصيبهم من المعادلة كنافة بالريد فيلفيت.. مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء.
سنة بعد سنة يجسد شهر رمضان هذا الشوق المحموم إلى الارتداد للخلف والاحتماء به وإعادة الاستمتاع به، أو بما يمكن تحضيره منه، فالمستقبل لا يترك لنا مساحة للتكهن بشكله ولا بالأمل في مضمونه.
المسوخ الدرامية والإعلانية وليدة لما نعايشه من تخبط عام، وبحاجة إلى تشريح نفسي واجتماعي وسياسي قبل أن تكون مادة سخرية وتوبيخ لصنّاعها دون تقليب الأسباب وفحصها من أوجهها المختلفة.
فالذين صنعوا كل هذا لم يجيئوا به من بنات أفكارهم بتوارد خواطر متطابق إلى هذا الحد لولا أن المزاج العام يلح على الهروب للخلف.
الأمة التي يسعى رئيسها لئلا تنهار بانتهاء مدته الرئاسية الأولى عوضًا عن شعاره الأشهر «هتبقى قد الدنيا» ماتزال محتبسة في بوجي وطمطم وبكار وليالي الحلمية.
الحنين ليس عيبًا، لكن أن يصبح قوام الأمة أسيرًا في ماضيها، فإن الأجدى أن نبحث عن إجابات حقيقية لأسئلة المستقبل الذي يبدو أن الجميع يشيح وجهه عنه، لفرط ما يبدو الهول المقيم رابضًا خلف أبوابه.