مذكرات عابر سبيل : أنا.. و«سيدة المرسيدس»

كتب: محمد الهلباوي الثلاثاء 07-06-2016 21:41

فجأة تحول ممزق الملابس، أغبر الوجه، من أثر الفقر والقهر، الذى كان جالساً بجوارى، على مائدة رحمن، فى شارع هدى شعراوى، وسط البلد، إلى مثار حسد جميع رواد المائدة، التى تعد المنافس الوحيد لمائدة شارع رمسيس، فى استقطاب العائلات، التى تجلس أحياناً عن فقر وطيب خاطر، وأحياناً أخرى عن كره، بسبب دعوتهم للجلوس، بعد حلف «يمين طلاق لازم تقعدوا تفطروا».

ووسط نغمات معارك الملاعق والشوك والسكاكين، مع أطباق الأرز والطبيخ، تهبط سيدة كأنها من «حوريات الجنة»، من سيارة كأنها «من ماركة مباركة»، وتربت على كتف أخينا «ابن الموعودة»، وتدس فى يده بعض المال، وتمسك بيده الأخرى لتمنحه حقيبة بلاستيكية، حاولت عيناى اختراقها، لأعرف ما بها، دون جدوى.

توقفت معركة الأطباق، وظل كل من حولى ينظر إلى «ابن المحظوظة»، بإعجاب شديد، رغم أنه نفس الشخص الذى ظللنا نتجاهل سؤاله كل مرة عن موعد الساعة، وكم تبقى على أذان المغرب، وبدأ كل منا يعرض عليه مرة «بلحة»، ومرة كوب ماء، ومرة أخرى نسأله «معاك عيش كفاية ولا تاخد؟»، وبدأ سباق استرضاء «رجل السيدة الحسناء»، لنظفر بشىء مما ناله، فى ساعة بخت، لم يكن يحلم بها.

أمسكت بكوب الماء وملأت له كوبه الفارغ، فيما انهمك آخرون ما بين وضع السلطات والتمر أمامه، ووضع سيجارة فى أذنه، دون أن يجرؤ أحدنا على سؤاله عما بداخل الحقيبة- التى ظل عطر «سيدة المائدة الحسناء» يفوح منها- من خيرات الله.

وأخيراً انتهى «مولانا» من تناول كل ما وضعناه أمامه من إفطار، وتبرع أحدهم واشترى له كوب عصير، من البائع المتجول، الذى كان يجلس إلى المائدة، فى استراحة محارب، قبل أن يبدأ معركة أكل عيشه، وباغته بسؤال «هوه إيه اللى معاك فى الكيس ده من فضلك؟»، وتصورت أن الأشعث «ابن أمه اللى راضية عليه» سيثور قائلاً: «وإنت مال أهلك»، لكنه خيب ظنى وأجابه بهدوء شديد «خير من السما»، فسألت نفسى لماذا تميز السماء بين أبناء مائدة رحمن واحدة، فى شهر فضيل لا يأتى إلا مرة واحدة فى العام؟.

وحين استفز أخينا المثقف الرد، باغت صديقى المبخت بسؤال آخر: «يعنى الخير ده ليك لوحدك ولا هاتشركنا معاك فيه، طالما الخير خير ربنا؟»، فأجابه «رفيق كفاح»، ممن اعتادوا على مثل هذه العطايا، خلال سنواتهم الطويلة، على موائد الرحمن، قائلاً إن الحقيبة بها «هدوم»، وإن «الحسناء المجهولة» تقود سيارتها وقت الإفطار، وتعبر بالقرب من موائد الرحمن، وإن «من يصيبه الدور» سيحصل على رزقه.

وحين سألت عن الشروط والمواصفات القياسية المطلوبة لأحصل على الرضاء السامى لـ«سيدة المرسيدس»، علمت أن أبرزها أن يبدو على هيئتى أن الزمان أكل منى وشرب، حينها فقط سرحت وتخيلت أننى «كوازيمودو»، فى رواية «أحدب نوتردام»، وأن حسناء السيارة هى إيزابيلا، التى ستحنو علىّ وتمنحنى من عطفها ومن حنانها ومن خيرات حقيبة سيارتها، التى تخيلتها مليئة بكل خيرات الله.

أفقت من حالة السرحان على «كوازيمودو»، الذى نال عطف «إيزابيلا»، يمنحنى سيجارة مستوردة، ويباغتنى بإشعالها لى، ثم أعطانى علبة سجائر «من بابها»، وأقسم يمين طلاق ألا أرفض، ثم دس فى يدى «ورقة بـ5 جنيه»، تبعها بـ«طلاق آخر»، ألا تعود إلى جيبه، وحين سألته مندهشاً عن «عطفه السامى»، قال لى: «يا أخى هيه عطفت عليا عشان شافتنى غلبان، وأنا باعطف عليك عشان لابس الحتة اللى عالحبل لكن باين عليك مش لاقى تاكل».