جلنار... (شخصية تبحث عن مؤلف -2)

مي عزام الإثنين 06-06-2016 23:18

كانت جلنار فاتنة شقراء من اصول جركسية، تعيش في بيت من بيوت العز في القاهرة، خلال الربع الأخير من القرن الـ18، باعتبارها زوجة لأحد المساعدين المقربين من الأمير الشهير حسن بك الجداوي، وذات صباح جمعة أنذر الطقس بجو عجيب، فقد هطلت الأمطار بغزارة من الفجر وحتى العشاء، وكان النهار رمادياً كئيباً، حيث أطبق الغيم، وأرعدت السماء رعدا قويا، وأبرقت برقا ساطعا، وظل البرق والمطر يتسلسل غالب الليل، على غير عادة شهر برمودة الموافق إبريل من عام 1788، ورددت جلنار في سرها بعض الدعوات، ونامت ليلها وهي خائفة ترتجف من انقباض غامض يكتم صدرها.
في الصباح استيقظت جلنار بمزيد من الكآبة، ومع انتصاف اليوم، جاءها "فاعل خير" بأخبار مفزعة، لكنها فسرت لها سر الانقباض الذي يكدر مشاعرها ويؤرق نومها، فقد حكى لها أن زوجها الدويدار حمزة كاشف، أخذ عددا من الفرسان وتوجه إلى سوق إمبابة، حيث ألقى القبض على صائغ رومي كانت تتعامل معه في شراء بعض المجوهرات والحلي، وأخبرها "فاعل الخير" أن زوجها حمزة حبس الصائغ منذ أيام، وأنه يعذبه ببشاعة، وعندما سألت عن السبب قال لها: لقد علمت أنه يشك في علاقة غرامية بينك وبين الصائغ الرومي، وقد احتاط لنفسه واستأذن مولاه الأمير حسن بك الجداوي في الانتقام لشرفه، فأطلق الجداوي يده في التصرف، فعاد إلى المكان الذي يحبس فيه الصائغ وأشرف على تعذيبه بنفسه، فقلع عينيه، وخلع أسنانه، وقطع أنفه وشفتيه، وتقطيع أطرافه حتى مات، وبعدها خرج مع فرقة الجند لنهب حانوت الصائغ بما فيه من جواهر ومصاغ للناس، واشترك معه أمراء الجداوي الآخرين في نهب بقية السوق كله، وقال "فاعل الخير": لقد حرصت على إبلاغك، لأن المعلومات التي وصلتني تؤكد أن الكاشف سيعود إلى البيت غاضبا ليقتلك.

استجمعت جلنار سر توتر العلاقة بينها وبين زوجها في الشهور الأخيرة، واستبعدت دافع الغيرة، لأنه لايلائم نفسية حمزة المتبلدة، الذي يخونها كل ليلة، وهو يعرف تمام المعرفة أنها تعلم ذلك، لكنها خشيت أنه دبر ذلك كله ليبرر نهبه لمحل الصائغ من ناحية، ويتقرب من أميره من ناحية، ويتخلص منها من ناحية ثالثة، ليخلو له البيت فيتزوج من ابنة أحد البايات الكبار لتدعيم سلطته.
لم تنتظر جلنار لجمع مصوغاتها وملابسها، وقررت الهروب من البيت فوراً، ولكن إلى أين؟، فاللجوء إلى حسن بك الجداوي أشبه بتسليم رقبتها للزوج الغادر، ولم يكن لها معرفة بالوالي اسماعيل بك شيخ البلد، ولم يطل تفكيرها، فأخذت وصيفتها وانطلقت إلى بيت السيدة نفيسة البيضا، حيث حكت لها القصة بتفاصيلها، فاستضافتها وأغاثتها، ولما شكا زوجها لأمير الجداوي، لم يجرؤ على التدخل، لكنه بعث لها برسول يستأذن في عودة الزوجة إلى البيت زوجها، فرفضت نفيسة، وردت برسالة قصيرة وحاسمة: أؤمر حمزة كاشف أن يطلق جلنار ولا يتعرض لها لأنها في حمايتي، وقبل أن ينطق الزوج معلقا على الرسالة، قال له أميره: طلقها، وتزوج غيرها فليست آخر النساء.
وعاشت جلنار في حماية أم المماليك السيدة نفيسة قادن بنت عبدالله، وشهدت كثيرا من التفاصيل في حياة هذه المرأة القوية التي تزوجت الحكام والأمراء، وعارضت الحكام وواجهت نابليون وخورشيد باشا ومحمد علي، وأسست امبراطورية تجارية ومنظمات اجتماعية وخدمية تعتبر نواة للعمل النسائي العام في مصر.
وللحديث بقية


مي عزام
ektebly@hotmail.com