وزارة للمستقبل

محمد كمال الأحد 05-06-2016 21:10

كتبت فى هذه المساحة أكثر من مرة عن أهمية التطلع للمستقبل والتحرر من أسر الماضى الذى يكبل حركتنا. تحدثت عن بعض التحديات المستقبلية، كما طرحت فكرة إنشاء مركز لأبحاث السياسات العامة بتمويل مصرى ومواصفات عالمية، يتولى بحث قضايا المستقبل.

لكن من الواضح أن الانشغال بالمستقبل لا يحتل الأولوية لدى النخبة أو الدولة. ففريق منا يؤمن بأن الماضى هو أزهى العصور، وبالتالى يستلهم رؤيته للمستقبل من هذا الماضى. وفريق آخر يرى أن الماضى هو أحلك العصور، وبالتالى لابد من تدمير بقاياه والانتقام ممن ارتبطوا به قبل التطلع للمستقبل. أما أجهزة الدولة فهى مشغولة ومنهكة فى إدارة دولاب العمل اليومى والتعامل مع الأزمات الأسبوعية. وبالتالى فالمحصلة هى أن الماضى، أو فى أحسن الأحوال أزمات الحاضر، هو ما يسيطر على تفكيرنا.

فى سنوات ما قبل ٢٠١١ لعبت المجالس القومية المتخصصة ومجلس الشورى واللجان المتخصصة لأمانة السياسات دورا فى التفكير للمستقبل، ولكن هذه المجالس أصبحت الآن فى ذمة التاريخ. وكان من المفترض أن تلعب المجالس التخصصية التابعة لرئاسة الجمهورية هذا الدور فى المرحلة الحالية، ولكن من الواضح أن حركة المستقبل أكبر وأسرع من دور هذه المجالس.

فكرة جديدة للتعامل مع المستقبل قدمتها حكومة السويد منذ حوالى عامين، وهى إنشاء وزارة للمستقبل، الوزارة اسمها «التنمية الاستراتيجية»، ولكن أصبحت معروفة لدى الإعلام باسم وزارة المستقبل، لأن التكليف الوحيد لها هو دراسة قضايا المستقبل. الفلسفة من إنشاء هذه الوزارة هى أن تكون داخل الحكومة جهة تركز على التفكير طويل المدى، وتروج للمستقبل وتحرض عليه بحيث يكون جزءا من التخطيط داخل الحكومة والنقاش فى المجتمع، بغض النظر عن ضغوط الأزمات اليومية، أو الاعتبارات الانتخابية التى تعطى أولوية للإنجازات قصيرة المدى.

وزارة المستقبل فى السويد لم تغرق نفسها فى دراسة كل قضايا المستقبل، ولكنها قررت التركيز فقط على ثلاث قضايا تمثل أولوية للسويد، وهى المهارات التى تحتاجها سوق العمل فى المستقبل فى ظل زيادة الميكنة وحلول الآلة محل البشر، أى كيفية الحفاظ على التنافسية للعامل السويدى فى ظل هذا المتغير الجديد، القضية الثانية تتعلق بما يسمى الاقتصاد الأخضر، أى دمج الاعتبارات البيئية فى عملية التنمية وهو أيضا توجه مستقبلى، والقضية الثالثة تتعلق بالتعاون الدولى فى إطار العولمة.

وزارة المستقبل لم تسع لبناء بيروقراطية وتعيين خبراء فى الجهاز الحكومى لدراسة هذه القضايا، بل أنشأت ثلاث مجموعات عمل، واعتمدت بشكل أساسى على الخبرات من الأكاديميا والمجتمع المدنى وقطاع الأعمال وغيرها. وانطلق تجميع هذه الخبرات المختلفة من حقيقة أن مشاكل المستقبل تتسم بالتعقد، وأن الوصول لحلول بشأنها يتطلب تعاون كل الخبراء وأصحاب المصلحة فى المجتمع ودون إقصاء.

فكرة إنشاء وزارة للمستقبل على غرار الوزارة السويدية وجدت صدى طيبا ودعوات لإنشاء كيان مماثل فى دول أخرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة، وقامت فنلندا بإنشاء لجنة للمستقبل فى البرلمان.

البعض قد ينظر لفكرة إنشاء وزارة للمستقبل فى مصر على أنه نوع من الرفاهية، فى الوقت الذى نغرق فيه فى مشاكل الحاضر، أو يقول أين نحن من السويد وغيرها من الدول المتقدمة. ولكن حقيقة الأمر أن المستقبل سيواجه الجميع وإن اختلفت نوعية القضايا فى كل دولة، ومن ثم لا يمكن تجاهل المستقبل ومقاومة التغيير المرتبط به، كذلك لا يمكن تأجيل المستقبل أو إبطاء حركته، ولكن يمكن الاستعداد له.

الخلاصة: إنشاء كيان مؤسسى للتعامل مع المستقبل هو فى حد ذاته فكرة مستقبلية، وأحد مظاهر الابتكار والإبداع السياسى، الذى يستحق منا المناقشة على الأقل.

makamal@feps.edu.eg